مشاهير شجّعوا على قتل السوريين... محاسبتهم ضرورية رغم "التكويعة"
شارك هذا الخبر
Wednesday, December 11, 2024
في العام 2016 كانت مراسلة قناة "سما" الموالية لنظام الأسد المخلوع، كنانة علوش، ترافق "الجيش الباسل" في معركته "لتطهير" سوريا من "الجراثيم والإرهابيين"، وتلتقط الصور مع جثث القتلى من المدنيين والعسكريين أو في دبابة. واليوم باتت تطلب العفو عما مضى وترفع علم المعارضة وتتحدث عن "سوريا الحرة"، ضمن تيار واسع مشابه اتبعته شخصيات مماثلة، من فنانين وإعلاميين وناشطين، عملوا منذ العام 2011 ليس فقط على تلميع صورة النظام السابق ورموزه، بل أيضاً على التحريض ضد السوريين، بما في ذلك دعوات من قبلهم لاستخدام الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين.
هذا التغيير السريع في الموقف السياسي بدأ بعد ساعات من سقوط نظام الأسد. وتحدثت شخصيات لطالما تشدقت ببطولة الجيش السوري في "دحر الإرهابيين"، عن نعيم الحرية، وبرر بعضها موقفه السابق بـ"الخوف من النظام"، ووصل ذلك إلى حد سوريالي من ناحية مطالبة كثيرين بعفو عام يشمل الجميع، بما في ذلك من ارتكب فظائع مروعة في الجيش وقوات الأمن بحق المدنيين حتى ضمن المعتقلات، بحجة "طي الصفحة وبدء صفحة جديدة" أو "حقن الدم السوري" في إشارة إلى أن العمل على تحقيق العدالة والمساءلة بشكل قانوني ومنهجي ضمن دولة مستقبلية يعني حرباً أهلية، حسب رأيهم.
وبالطبع كان هنالك فنانون وإعلاميون وشخصيات عامة، تخاف من بطش النظام، الذي لم يتوانَ يوماً عن الإجرام والتنكيل بالسوريين، كما هو واضح في صور المعتقلات المروعة التي تكشفت أمام العالم هذا الأسبوع. لكن وجود الفنانين المعارضين الذين تحدثوا ضد النظام، من داخل وخارج سوريا، على مر السنين، يسلط الضوء على حقيقة أن أي شخص قام بالتحريض والدعوات للقتل ونشر البروباغندا الرسمية، كان يعي ما يقوم به واستمر به حتى اليوم الأخير لبقاء النظام في السلطة، السبت الماضي، رغم امتلاك عشرات الفرص لاختيار طريق آخر، بما في ذلك الصمت والبقاء على الحياد مثل أسماء كثيرة، حتى ضمن العاملين في التلفزيون السوري الرسمي نفسه، ممن لم يتجهوا يوماً نحو التشبيح.
ومن الطبيعي اليوم في ظل عدم اليقين السائد بشأن مستقبل البلاد التي لم يمض على إسقاطها للنظام الحاكم منذ العام 1970، سوى ثلاثة أيام، أن تنتشر مخاوف واسعة خصوصاً بين الفئة التي كانت توصف بالموالاة، وهي جزئية لطالما تمت الإشارة إليها (في "المدن") وتفيد بأن الموالين أنفسهم عانوا بطش النظام ولم يعد الوصف الذي ارتبط بهم منذ العام 2011 دقيقاً ربما، بما في ذلك مناطق واسعة من قرى الساحل السوري التي تسكنها غالبية من الطائفة العلوية التي كان أفرادها من الأشد فقراً في البلاد حتى قبل الثورة، ولم يوفر لهم النظام خياراً سوى الزراعة أو الانضمام للجيش كجنود فقراء أيضاً.
والحال أن التحريض وخطاب الكراهية والدعوات للإبادة الجماعية، لا يمكن أن توصف بأنها مجرد "رأي" أو مزاج يمكن تغييره حسب الظروف، وكأن الحديث على الشاشات الرسمية مع تلك الشخصيات أو في صفحاتهم العامة كان يدور حول اختيار لون فستان لسهرة المساء، أو نوعية البسكويت المقدم مع الشاي للضيوف، وليس اختيار مكان البرميل المتفجر التالي وعدد الأطفال الذين يمكن التخلص منهم بـ"إرادة وعزيمة الجيش السوري" والزاوية المثالية لالتقاط أكبر عدد ممكن من الجثث والأشلاء في صورة سيلفي واحدة.
ويمكن الرجوع لحالات تاريخية يظهر فيها كيف تمت محاسبة من ينشر تلك النوعية من الدعاية الإجرامية، مثل الدعاية النازية. ففي محاكمات نورنبيرغ التاريخية التي عقدتها قوات الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية وفقاً للقانون الدولي وقوانين الحرب، تمت محاكمة صانعي ومنفذي الدعاية النازية، بما في ذلك يوليوس شترايخر أحد مهندسي دعاية هتلر، الذي حكم عليه بالإعدام بتهمة الانخراط في جرائم ضد الإنسانية.
ويندرج ضمن ذلك أنواع كثيرة من الأفعال تبدأ بالنشر والكتابة والتعليقات التي تضمنت دعوات للإبادة والتطهير وصولاً للسخرية من الضحايا في المسلسلات التلفزيونية، مثلما قدمت الممثلة أمل عرفة سخرية من ضحايا الأسلحة الكيماوية (اعتذرت عنها لاحقاً) أو سخرية إعلاميين في إذاعة "شام إف إم" من ضحايا العاملين الإنسانيين في البلاد، إلى اعتراف الممثلة الأخرى سلاف فواخرجي، بوجود تعذيب ممنهج في البلاد من دون وجود مشكلة في ذلك طالما أنه يحمي البلاد من الإسلاميين والجهاديين، وغيرها مئات الحالات التي تم توثيقها على مر السنين، وشاركت فيها شخصيات متعددة ضمن مستويات مختلفة، حيث كانت الدعاية الرسمية وشبه الرسمية تمكن من نشر العنف ونزع الإنسانية عن الضحايا بوصفهم جراثيم وإرهابيين وأشخاصاً يمكن التخلص منهم من أجل بناء مجتمع متجانس وغيرها من العبارات المروعة.
وأشار مدير "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" فضل عبد الغني في حديث مع "المدن" إلى أن أولئك الأفراد الذين قاموا بالتحريض ضد السوريين وتبرير جرائم النظام البائد بحقهم، يجب أن تتم محاسبتهم ولا يمكن العفو عنهم، مضيفاً أن التشبيح كان يتم على درجات، وكذلك حال الدفاع والتبرير. وتحدد ذلك، المحكمة ولجان المصالحة، لكن "أعتقد أن بعضهم كان يحرض على مزيد من القتل أو طالب باستخدام مزيد من البراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية. هؤلاء يعتبرون شركاء في الجريمة وبالتالي يجب محاسبتهم".
وإن لم يشارك أولئك الأشخاص في تنفيذ الفظائع إلا أنهم كانوا يعطون غطاء شرعياً وسياسياً من أجل الاستمرار في القيام بالانتهاكات والجرائم. وعقب عبد الغني الذي كان يعمل مع فريق "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" على توثيق كافة انتهاكات حقوق الإنسان في البلاد من كافة الأطراف منذ العام 2011، بأن الأفراد الآخرين الذين كانوا مثلاً يظهرون مع عائلة النظام أو يحضرون اجتماعات رسمية مع القيادة، فيمكن فهم وتبرير موقفهم اليوم ربما من ناحية خوفهم من بطش النظام وتعذيبه.
مثلاً كانت أمل عرفة دائماً أكثر أخلاقية بكثير، من ناحية عدم التشبيح للنظام السوري باستثناء مشاركتها في لوحات فنية قليلة أثارت استياء ولا تعرف أصلاً ظروف تصويرها، وكانت تحرص على الاعتذار حتى في ذلك الماضي عن تلك الأفعال والتنصل من الموقف السياسي الأكثر تشبيحاً والدعوة للسلام مع المعارضين بوصفهم سوريين أصيلين، ما عرضها لبطش النظام والمنع من العمل، كما لم تظهر حتى في صور مع عائلة الأسد ولم تنشر في مواقع التواصل دعوات للإبادة وتلميع صورة الجيش، وتحدثت عن إيمانها بسوريا تسع جميع الأفراد حتى من طرف المعارضة كما تحدثت عن اللاجئين والنازحين ولم تشجع يوماً على الإبادة.
يتعاكس ذلك كلياً مع شخصيات مثل فواخرجي التي كانت حتى اليوم في منشوراتها، بعد سقوط النظام، تصر على موقفها ولا تعتذر عنه، على غرار زميلها باسم ياخور الذي اعتبر أنه لن يعود إلى سوريا لأن سوريا بالنسبة إليه انتهت مع رحيل رئيسه المفدى. وبين الحالتين يمكن تلمس حالات كثيرة أخرى لا يمكن رؤيتها بعدسة ضيقة ومساءلتها جميعاً بالدرجة نفسها من الشدة. ويظهر ذلك الخيارات التي كانت تلك الشخصيات تمتلكها طوال السنوات الماضية. وتصبح هذه الفئة أقرب في ما قامت به، إلى مسؤولي النظام الإعلاميين، مثل بثينة شعبان ولونا الشبل ومضر إبراهيم وعشرات آخرين.
ينفي ذلك توصيف ما قامت به هذه الشخصيات بأنه مجرد "تعبير عن الرأي السياسي" ويندرج ضمن التحريض والبروباغندا الداعية للقتل الجماعي. وإن كان أولئك الأفراد مدنيين تقنياً، إلا أن بعضهم كان يرافق جيش النظام ويلتقط الصور مع الجثث كما شارك بعضهم على الهواء مباشرة في إطلاق القذائف والبراميل المتفجرة، أمام ضيوف كانوا يهللون لتلك المناظر ويدعون لتعميمها على بقية أنحاء سوريا، على غرار مراسل التلفزيون السوري في حلب أوس الحسن وهو يساعد في إلقاء برميل متفجر من طائرة حربية.
واليوم تنتشر تعليقات في مواقع التواصل، تفيد بأن من يتحدث عن ذلك الماضي ويشير إليه ويسخر من "التكويع"، وهو المصطلح السوري الذي بات يصف ظاهرة انقلاب الموالين إلى معارضين بسرعة، يقوم بـ"التحريض العكسي"، ويتم نشر سردية طائفية أو سردية انتقامية، مع التركيز على أن نظام الأسد كان الجهة التي تفرق السوريين وتضعهم ضد بعضهم البعض. ورغم أن ذلك صحيح، إلا أن السياق العام مهم ولا يجب إغفاله، لأن البحث عن العدالة والمساءلة، ضروري لبناء مجتمع جديد وصحي يواجه كوارث الماضي بدل تجنبها وإنكار حصولها بشكل كامل.
ورأى عبد الغني، أن الشخصيات الفنية والإعلامية التي كانت موالية لنظام الأسد ولم تكن تقوم بالتشبيح والتحريض العلني ضد النظام، لا يمكن مسامحتهم بمجرد نشرهم تعليقاً عابراً في "فايسبوك" أو صورة لعلم الثورة في "أنستغرام"، بل يجب عليهم الظهور العلني والاعتذار والاعتراف بالأخطاء السابقة مراراً وتكراراً، مضيفاً أن "التكويع الحالي لا يمتلك أي قيمة"، مشدداً على أن ذلك يجب أن يتم ضمن هذه اللغة الصريحة بدلاً من الأسلوب الحالي الذي تغلب عليه صفة الرومانسية الساذجة البعيدة من تقديم ما يفيد المجتمع الجديد.
وأكمل عبد الغني أن تلك الشخصيات يجب أن تعترف بما قامت به وتقدم استعدادها لبذل الجهود من أجل تعويض الناس والخدمة العامة والانخراط في الشأن العام بشكل إيجابي، فيما تحدد الممارسات والأفعال مدى جدية تلك التحولات وليس مجرد الاستعراض، مع التشديد على أن ذلك لا يشمل الشخصيات التي اتجهت نحو التحريض والتشبيح، والتي يجب محاكمتها.
والتوازن بين حقن الدماء والعدالة يكون من اختصاص المحاكم في سوريا المستقبلية، حيث تقدّم الأدلة بحق أولئك الأفراد. وأوضح عبد الغني أن من يحدد الخط الفاصل بين الرأي والتحريض هي المحاكم ولجان المصالحة، مشدداً على أنه من المبكر ربما الحديث عن هذا الموضوع، بقدر ما يجب ملاحقة الصفوف الأولى والثانية من المحرضين ضد السوريين، إلى جانب الشخصيات السياسية والأمنية التي كانت تشرف على انتهاكات حقوق الإنسان وتنفذها على حد سواء.
ورأى عبد الغني أن الشخصيات الأخرى الأقل شأناً ممن كانت تدور في فلك النظام وتروج له، ليسوا أكثر من إشكاليات بسيطة، يجب أن تصلهم رسائل أساسية بشأن الاعتذار العلني وتغيير سلوكهم والتبرؤ العلني من التصريحات التي قدموها والاعتراف العلني بتلك التصريحات، كي لا تتكرر المشكلة نفسها مع أي قوى سياسية جديدة في سوريا المستقبلية، علماً أن ذلك ليس خاصاً بسوريا فقط بل يحصل في الدول الديموقراطية التي شهدت حروباً في السابق، مثل ألمانيا التي تلاحق حتى اليوم رموز النازية ومن يروج لها.
ومن الضروري هنا الإشارة إلى أن البحث عن العدالة والمساءلة عن مروجي الدعاية والمرتكبين لشتى أنواع الفظائع، لا يعني تحريضاً عكسياً أو دعوة إلى عقوبة خارجة عن إطار القانون بشكل فردي. بل تشكل تلك الجهود التي يقوم بها صحافيون وحقوقيون، توثيقاً وتحليلاً لسياق سياسي مهم ضمن مجتمع عانى من القمع والدكتاتورية طوال 5 عقود، لا أكثر. ويطرح ذلك كله أسئلة عن حضور القانون الدولي ومنظمات حقوقية دولية في هذه النوعية من القضايا وشكل العدالة المنتظر في سوريا المستقبلية التي لا يعرف أصلاً كيف ستتشكل، خصوصاً أن هناك مخاوف من سيطرة تنظيمات إسلامية على البلاد لصالح تحويلها إلى دولة تشبه نموذج "طالبان" في أفغانستان.