رفيق الحريري … الحالم الذي وقّع قرار إعدامه- بقلم مصطفى علوش

  • شارك هذا الخبر
Wednesday, February 12, 2025

“كُلَّ يَومٍ لَكَ اِحتِمالٌ جَديدُ وَمَسيرٌ لِلمَجدِ فيهِ مُقامُ

وَإِذا كانَتِ النفوس كِبارًا تَعِبَت في مُرادِها الأَجسامُ”

(المتنبي)



ليس في نيّتي أن أُدخل رفيق الحريري في مجال الندبيّات الموسمية وجلسات العزاء التي تستذكر روايات، لا تهدف في أساسها مديح الشهيد فقط، بل وتحويل الرواية إلى وسيلة لتسويغ العداء ضدّ فئة أو جماعة وتحليل دمها وخلق الأسباب لتقصّد ظلمها بناءً على حكايات غير مسندة إلّا بالتقليد الشفوي المتناقل بين الأجيال، أحياناً لعشرات القرون.

يبرز الإشكال عند اختصار الناس كلّ الأزمات ببعض الشعارات، وبما هو مرتبط بما سمعوه من هنا وهناك، عن طريق التقليد الكلامي، الذي يعفي السامع من عناء البحث والتدقيق في المصادر ومدى صحّتها.

الإشكال هو أنّ السائد من ثرثرة بين الناس يصبح بديهيّاً، ومع الوقت يمسي البديهيّ حقيقة شعبية يصبح من المستحيل تحليل أصلها من عامّة الناس إلّا من يفضّلون عناء البحث والتدقيق لاستنتاج الحقائق، بدل الكلام العام.

كان الأسى، حسب معرفتي، يغمر قلب رفيق الحريري عندما كان يُرغم على معالجة صغائر الأمور المتعلّقة بزواريب السياسة اللبنانية على مدى ربع قرن من حياته في الشأن العامّ. فعلى الرغم من جسامة المهمّات الملقاة على عاتقه، فإنّه كان يعلم بأنّ أتفه الأمور كانت فيها القدرة الكامنة على إعاقة أهمّ المشاريع ذات الأبعاد الوطنية والقومية وحتى العالمية، في ظلّ الوقائع المحلّية والإقليمية الشوهاء.

لقد كان كلّ جسر يُبنى أو كلّ مستشفى أو جامعة لا يمرّ من دون أن يحظى برضى جملة من المتناقضات غير السويّة، في شبه دولة غير سويّة. لذلك كان عليه، بشكل شخصي في كثير من الأحيان، التعامل مع مسائل قد تبدأ بحَرَدِ ضابط مخابرات، وتصل إلى حساسيّة زعيم محلي، ثمّ استكبار مرجع طائفي، إلى ما هنالك من تفاصيل لا مكان لها في عالم السياسة، وإن كانت في لبنان تُسمّى سياسة. لقد أُجبر على التعامل مع هذه التوافه ليحمي الرؤيا المستقبلية والمهمّات الكبرى الملقاة على عاتقه. هذه المهمّات هي التي شكّلت البعد الآخر لرفيق الحريري.

على الرغم من جسامة المهمّات الملقاة على عاتقه، فإنّه كان يعلم بأنّ أتفه الأمور كانت فيها القدرة الكامنة على إعاقة أهمّ المشاريع ذات الأبعاد الوطنية والقومية وحتى العالمية

احتياط نخبويّ

كانت بدايات تدخُّله في الشأن العامّ عبر المؤسّسات التي علّمت ومدّت يد المساعدة للّبنانيين في كلّ المجالات. هذه الأعمال، وإن كانت ذات بُعدٍ إنسانيّ مباشر، فقد كان تأثيرها على المستوى السياسي شديد الأهمّية. فمن ناحية، تمكّن من انتشال الآلاف من الشباب من أتون اليأس والموت، ومن ناحية أخرى وفّر للبنان احتياطاً نخبويّاً ظهرت آثاره بقوّة بعد دخول لبنان عصر اتّفاق الطائف، الذي ساهم هو شخصيّاً في تسويقه وإعداده، بعدما أُحبطت محاولاته الأولى والمستمرّة منذ عام 1983.

أمّا المهمّة الثانية فقد كانت قيادته تحدّي السلام المحتمل الذي كانت بوادره واضحة من خلال مؤتمر مدريد. لقد كان التحدّي هو كيفية إعداد لبنان ليكون رأس الحربة العربية في مواجهة مشاريع الهيمنة الاقتصادية والثقافية للكيان الصهيوني.

ورشة الإعمار والتّحديث

يومئذٍ دخل رفيق الحريري في سباق محموم، تمثّل في ورشة الإعمار والتحديث التي أطلقها منذ عام 1992. وضع نصب عينيه بناء اقتصاد متين ومتنامٍ في لبنان ليكون نواة المشروع الاقتصادي العربي الذي سوف تستفيد منه سورية بشكل مباشر، من خلال شراكة حقيقية كان يمكن أن تُدخلها في إنماءٍ لا سابق له، نظراً للمميّزات التفاضلية المتعدّدة للبنان وسورية معاً، لو تكاملا من دون هيمنة طرف على آخر ودون استغلال أحدهما للآخر.

لكنّ عملية السلام انهارت أواسط التسعينيات، وتوقّف معها انفتاح النظام السوري، المتعثّر أصلاً، على الحداثة والتوجّهات الديمقراطية التي هي أساس أيّ نموّ اقتصادي. أدّى ذلك إلى عودة سيطرة التوجّهات الأمنيّة والمخابراتيّة على خيارات السلطة في سورية، فنتج عمليّاً ما سُمّي بالنظام الأمنيّ اللبناني – السوري. تمثّل ذلك في إقصاء الحريري عن الحكم سنة 1998، الذي كان مؤشّراً إضافياً إلى تراجع احتمالات السلام في الشرق الأوسط.

بعد عمليّة البرجين الكارثية سنة 2001، أصبح الدين الإسلامي السنّي وأصول تعاليمه العدوّ رقم واحد للإدارة الأميركية

ظهور الأصوليّات السّنّيّة

لكنّ بوادر أزمة جديدة بدأت تلوح في الأفق الدولي والإقليمي، وتمثّلت في بروز نوع جديد من التهديدات الإرهابية للنظام العالمي، من خلال المجموعات الأصولية السنيّة.

كانت الإدارة الأميركية تعتبر الأصوليّات الشيعية المتمثّلة بالخمينيّة، الخطر الأكبر عليها على مدى عقدين سابقين، بعد سلسلة دموية من العمليات الإرهابية الكبرى، التي كان لبنان المسرح الأهمّ لها. لكنّ عمليّتي كينيا اللتين طالت إحداهما السفارة الأميركية، دفعتا الإدارة الأميركية إلى إعادة ترتيب أولويّاتها، بحيث أصبحت الأصوليّات السنّية تشكّل التهديد الإرهابي الأوّل.

بعد عمليّة البرجين الكارثية سنة 2001، أصبح الدين الإسلامي السنّي وأصول تعاليمه العدوّ رقم واحد للإدارة الأميركية، وتمثّل ذلك في الضغوطات الكبرى التي مورست على الدول السنّية لتعديل برامجها التعليمية.

في الوقت ذاته، برزت بوادر انفتاح تجاه القوى الشيعية أنتجت تعاوناً بين الولايات المتحدة وإيران خلال الحملة على أفغانستان، ثمّ العراق. كما أنّ الإدارة الأميركية استثنت المنظّمات الشيعية الواسعة الانتشار، ومن ضمنها “الحزب”، من مسألة تقييد النشاطات وتجميد الأرصدة، في حين تمّ خنق كلّ المؤسّسات السنيّة، حتى الإنسانية منها.

اليوم، سقط “الحزب” وسقط سور الأسد، ومنظومة الممانعة الإرهابية والإجرامية، وأتى عهد جديد على لبنان، ومعه آمال عراض بكسر حلقات مفرغة من الفساد والانهيا

مشروع الهلال الشّيعيّ

برزت عندئذٍ شائعات عن مشروع هلال شيعي يقسِّم العالم الإسلامي وينقل دائرة الصراع إلى قلبه لإضعافه ولتسهيل السيطرة عليه. في هذا الوقت شهدنا الرئيس الحريري في حركة مكّوكية بين عواصم القرار، في محاولة لإبراز خطورة هذا المشروع على الأمن والسلم العالميَّين. وقد كان يحاول طرح مشاريع حوار وتفاهم بين قوى الانفتاح الإسلامية وبين الغرب، بدل مشاريع المواجهة المفتوحة التي أُطلق عليها صراع الحضارات.

هذا الأمر بالذات وضع رفيق الحريري على لائحة الإعدام من قبل مشروع الممانعة الذي قادته إيران لأنّ هذا المسعى سيعيق مشاريعها التي تستند فقط إلى الصراع والفوضى. في حين أنّ رفيق الحريري استند مسعاه إلى قناعة راسخة بأنّ مصالح الناس واستقرارهم هي الأولوية الكبرى. لكنّ الإعاقة الكأداء لهذا المسعى كانت السور السوري المتمثّل بنظام الأسد، ومنظومة المصالح التافهة المحلّية. وهذا ما أدركه رفيق الحريري يوم قرّر الانقلاب على الاثنين بعد التمديد لإميل لحود.

سمعت الكثير من الانتقادات للسياسات الحريرية، وللأمانة بعضها محقّ، ولن ألجأ هنا إلى مقولة “ما خلّونا”، فقد كان بالإمكان ربّما كسر الحلقة المفرغة من التسويات بشكل مبكر، أو الاعتكاف والخروج من الدوّامة، وقد ناقشنا الأمر تكراراً في أيّام رفيق الحريري. لكن، كما أصبح معلوماً، عندما قرّر كسر الحلقة المفرغة اتُّخذ قرار الإعدام.

إقرأ أيضاً: رفيق الحريري: هل تتحقّق العدالة بتصفية الأداة؟

سقوط “الحزب” والأسد

اليوم، سقط “الحزب” وسقط سور الأسد، ومنظومة الممانعة الإرهابية والإجرامية، وأتى عهد جديد على لبنان، ومعه آمال عراض بكسر حلقات مفرغة من الفساد والانهيار. وما سيحصل على الأرجح هو مقارنة ظالمة بين زمن رفيق الحريري وزمن نوّاف سلام، من دون حساب الظروف التي أحاطت بالزمنين. لكنّ العدالة تقتضي استذكار أنّ زمن الحريري كان محاصَراً بالحديد والنار، في الداخل والخارج، وزمن اليوم كسر كلّ تلك الأسوار.

قد يكون للسياسات الحريرية الكثير من السقطات، لكن يجب أن تؤخذ تلك الأمور بسياقها التاريخي الواقعي، ولذا على الجميع أن يستذكروا أنّ اغتيال رفيق الحريري سببه أنّه حلم عمل على استعادة لبنان من دوّامة الخراب، في ظروف قاتلة قولاً وفعلاً.