الدولة حجبت 300 مليون دولار عن شعبها في 2024 -بقلم علي نور الدين
شارك هذا الخبر
Saturday, February 15, 2025
باتت أرقام الميزانيّة العامّة للعام الفائت 2024 متاحة للعموم، كما عرضها وزير الماليّة يوسف الخليل أمام وكالة التصنيف الإئتماني "ستاندارد آند بورز". ومن حسن حظ اللبنانيّين أن الوزارة اضطرّت مرغمةً لتقديم هذه البيانات في عرض الوزير، ليتمكنوا من معرفة مصير التحصيلات الضريبيّة التي تجبيها دولتهم. إذ كما يعرف الجميع، تراجعت خلال السنوات الماضية معايير الإفصاح المالي التي تعتمدها وزارة الماليّة ومصرف لبنان، إلى حدّ حجب الكثير من المعلومات والمؤشّرات النقديّة والماليّة الحسّاسة. وهذا ما دفع وكالة "فيتش" إلى التوقّف عن إصدار التقييمات أو التصنيفات الإئتمانيّة للبنان. وبالنسبة لأرقام الدولة الماليّة بالتحديد، لم يكن هناك ما يمكن الاستناد إليه طوال الفترة الماضية لمتابعة حسابات وإيرادات ونفقات الدولة اللبنانيّة.
ما عرضه الوزير له خلاصة واحدة فقط لا غير: لقد حققت الدولة اللبنانيّة "فائضًا" بقيمة 300 مليون دولار أميريكي، خلال العام 2024. أو بعبارات أوضح، جبت الدولة 300 مليون دولار أميركي من الأموال التي لم يتم إنفاقها خلال تلك السنة، أي خلال الفترة التي امتنعت فيها الحكومة عن التعامل مع أبسط حاجات النزوح خلال الحرب، بحجّة عدم توفّر السيولة. وما تؤكّده هذه الأرقام، مجددًا، هو صحّة ما تناولته "المدن" طوال العام الماضي، بخصوص سياسة "احتجاز" الواردات العامّة في حسابات الدولة لدى مصرف لبنان، والتي لعبت دورًا في تهميش الدور الاجتماعي للدولة اللبنانيّة.
آليات حجب الأموال العامّة يحدّد قانون الموازنة العامّة، التي تعدّه الحكومة ويعدّله ويصادق عليه مجلس النوّاب، سقوف الإنفاق العام لكل سنة. ويجري تحديد هذه السقوف بالاستناد إلى تقديرات أو توقّعات معيّنة للإيرادات العامّة. وهذا ما يجعل الموازنة تشريعًا بغايتين: إجازة الجباية وتقديرها، وإجازة الإنفاق العام على هذا الأساس. ومن المفترض طبعاً أن يكون تقدير الإيرادات دقيقًا، لتحقيق التوازن في أرقام الموازنة، أي لمواءمة أرقام النفقات مع حجم الإيرادات التي يُتوقّع تحقيقها.
ما جرى خلال العام الماضي، هو الاستناد إلى أرقام غير دقيقة ومنخفضة وشديدة التحفّظ، بخصوص حجم الإيرادات المتوقّعة، في موازنة العام 2024. بصورة أدق، لقد كان حجم الإيردات المحقّقة فعليًا خلال سنة 2024 أعلى بنسبة 18.84%، مقارنة بحجم الإيرادات التي توقّعتها موازنة العام نفسه. ولهذا السبب، كانت الدولة تُلزم نفسها بسقوف منخفضة جدًا للإنفاق، مقارنة بحجم الإيرادات الكبيرة التي تحصّلها فعليًا. وبطبيعة الحال، لم تبادر وزارة الماليّة إلى تصحيح هذا الخلل خلال العام الماضي، ولم توائم الموازنة ونفقاتها مع حجم الإيرادات التي يتم تحقيقها فعليًا، رغم حاجتها لزيادة الإنفاق العام.
لقد حققت الدولة اللبنانيّة خلال عام 2024 فائضًا بقيمة 300 مليون دولار، بينما كان قانون الموازنة يترقّب عجزًا بقيمة 17.19 ترليون ليرة لبنانيّة. وبينما كانت الإدارات العامّة تعاني من شح السيولة ونقص التمويل، وبينما كان المجتمع يعاني من تداعيات الحرب، وخصوصًا خلال الربع الأخير من السنة، كانت الدولة تحصّل العائدات الضريبيّة وتحتجزها في حساباتها لدى مصرف لبنان. والأرقام التي نستند إليها هنا، هي بالتحديد تلك التي عرضها وزير الماليّة أمام "ستاندارد آند بورز".
وفقًا لأرقام الوزير، لقد حصّلت الدولة ما يقارب الـ 4.1 مليار دولار من العائدات، بينما لم تنفق سوى 3.8 مليار دولار خلال الفترة نفسها. ولم يكن هذا النمط، القائم على حجز الإيرادات العامّة والامتناع عن إنفاقها، جديدًا أو مستجدًا. فخلال العام السابق 2023، كانت الدولة قد حققت فائضًا مشابهًا بقيمة 364 مليون دولار أميركي. كانت الزيادة في حجم الإيرادات العامّة، التي لم يتم إنفاقها، ناتجها عن التصحيح الضريبي، أي عن اعتماد أسعار صرف واقعيّة لاستيفاء الضرائب والرسوم، بعدما تم اعتماد سعر الصرف الرسمي سابقًا لجباية هذه الأموال.
أهداف السياسة المتقشّفة
ثمّة من يبرّر هذا الاتجاه بالقول أن حجز الإيرادات العامّة بالليرة ضروري لضبط حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالعملة المحليّة، أي لتحقيق الاستقرار النقدي في سوق القطع. غير أنّ مراجعة أرقام مصرف لبنان تُظهر أنّ أهداف هذه السياسة تخطّت ضبط الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة. فمقابل الإيرادات العامّة التي كان يجري احتجازها بالليرة، كان المصرف المركزي يستخدم كميّة موازية من السيولة بالليرة لشراء الدولارات من السوق. أي بمعنى آخر، كان هدف هذه السياسة مراكمة المزيد من الاحتياطات المدولرة في مصرف لبنان، ولم تقتصر مفاعيلها على امتصاص الليرات من السوق.
عند تقييم هذه السياسة النقديّة، أو تقديم الرأي فيها، ليس هناك "جواب صحيح" واحد. يختلف تقدير الفرد بحسب الحساسيّة أو الأولويّات التي يحملها. هل كانت الأولويّة خلال فترة الحرب للاستجابة للحاجات الداهمة التي فرضتها حالة النزوح؟ وهل كانت الأولويّة التعامل مع حاجات الفئات الأكثر حاجة؟ أم أنّ تقليص فجوة الخسائر في مصرف لبنان، التي كان يفترض التعامل معها عبر إعادة هيكلة القطاع المصرفي، أولويّة أهم؟ هل نريد استخدام المال العام لتقليص كلفة إعادة الهيكلة، على المصرفيين، أم لتحقيق الدور الاجتماعي للدولة؟
الإجابة هنا، تعتمد على نوعيّة المصالح التي يحرص عليها كل شخص. وخيار الدولة خلال العامين الماضيين كان واضحًا.