قاسم ممثّلاً لخامنئي: ماليّة التّشييع الخميني- بقلم نديم قطيش

  • شارك هذا الخبر
Monday, February 10, 2025

بعد نحو خمسة أشهر على اغتيال الأمين العامّ لـ”الحزب” حسن نصرالله وقبل أيّام من جنازته المؤجّلة، أعلن المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، تعيين نعيم قاسم، الأمين العامّ الجديد، وكيلاً شرعيّاً له في لبنان، خلفاً لنصرالله.

تكليف قاسم، ولو ارتبط ظاهراً بشؤون إدارية وماليّة (جباية الخُمس، وهو ضريبة عباديّة يدفعها المؤمنون الشيعة بالإضافة إلى الزكاة)، يلقي الضوء على الصلة الدينية والسياسية والأمنيّة والعسكرية الخاصّة التي ربطت بعض شيعة لبنان، منذ الثورة الخمينيّة، بإيران. فهو يحمل في جوهره تأكيدَ المؤكّد، وهو أنّ “الحزب” لم يكن يوماً، ولن يكون، مجرّد حزب لبناني، بل جزء عضويّ من أجزاء المنظومة الإيرانية في المنطقة.



حوّلت ولاية الفقيه المطلقة، التي صاغها الخميني، التشيّع إلى مشروع سياسي إيراني، وغيّرت المرجعية الشيعية من كونها سلطة دينية فقهية إلى كونها نظام حكم سياسي شامل، تطال مفاعيله جميع الشيعة، بغضّ النظر عن جنسيّاتهم. وما فكرة تصدير الثورة إلا تصدير لفكرة الولاية نفسها بما هي عنوان الولاء للخميني والخمينيّة، على نحو يتجاوز الولاء للدول الوطنية.

بهذه الخلفيّة يعيّن المرشد الأعلى الإيراني وكلاءه الشرعيّين في مختلف المناطق داخل إيران وخارجها، بما في ذلك لبنان، ليكونوا إحدى أدوات توسعة نفوذ ولاية الفقيه. وتشمل وظيفة هؤلاء الوكلاء إدارة المؤسّسات الدينية والمراكز الثقافية، التي تتولّى الترويج والتعبئة لفكر ولاية الفقيه وضمان الالتزام بفكر المرشد. كما يشرفون على تدبيج وتطبيق الأحكام الشرعية، التي تتجاوز مسائل العبادات، وتطال عناوين معقّدة، مثل الجهاد والقتال وإدارة ودعم الميليشيات، كما حصل في الفتاوى المتعلّقة بالمشاركة في قمع الثورة السورية.

“الخُمس” أساس الحركة الماليّة

بيد أنّ جمع أموال “الخُمس” وطريقة إنفاقه يبقيان البند الأهمّ في حركة منظومة ولاية الفقيه. يستند الحكم الشرعي بشأن الخُمس، إلى الآية 41 من سورة الأنفال: “وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ”.

خلا تاريخ الشيعة في لبنان من وجود “وليّ أمر” خارجي يتحكّم بقرار الطائفة
كان الخُمس يُقسَّم في الأصل إلى ما يُسمّى “سهم الإمام” (أي ما هو نصيب الدولة الإسلامية تحت حكم النبيّ أو الأئمّة)، و”سهم السادة” (أي ما يخصّص للفقراء من سادة بني هاشم، المتحدّرين من نسل الرسول مباشرة).

مع صعود ولاية الفقيه، صار الخُمس أداةً ماليّةً ضخمة تُدفع للمرشد الأعلى في إيران أو لوكلائه، ويُستخدم اليوم في أنشطة كثيرة على رأسها تمويل الحرس الثوري والميليشيات التابعة لإيران، وبناء شبكات النفوذ السياسي والديني في العالم الشيعي، ودعم الأنشطة الاقتصادية السرّية التي تعزّز قوّة إيران الإقليمية.

على هذا النحو، ووفق الخلطة الذكيّة لولاية الفقيه بين الشؤون العباديّة والسياسية والعسكرية، تحوّل “الخُمس” من فريضة دينية لدعم المجتمع الشيعي إلى أداة سياسية تموّل مشاريع إيران الخارجية، وارتبط بالسلطة ووظائفها أكثر من ارتباطه بالالتزام الديني.

لأجل ذلك، لا يعمل الوكلاء الشرعيون الرئيسيون، كنعيم قاسم وقبله نصرالله ومحمد يزبك، في المجال الديني فقط، بل يمارسون أدواراً سياسية مؤثّرة، تصبّ كلّها في تعزيز نفوذ ولاية الفقيه عبر التوجيه السياسي والإدارة الميدانية والتعبئة العقائدية.

قاسم

إذاً ليس غريباً أن يكون الوكلاء الشرعيون جزءاً من شبكة النفوذ الإيرانية التي تعمل تحت إشراف الحرس الثوري الإيراني، لا تحت إشراف الحوزات ومراجعها فقط، لا سيما في المناطق التي توجد فيها الميليشيات التابعة لطهران.

تشمل مهامّ الوكلاء تنظيم شبكات تجنيد ودعم المقاتلين، والتنسيق مع فيلق القدس وقيادته في كلّ ما يتعلّق بالعمليات السياسية والعسكرية الأمنيّة ونقل الأموال والأسلحة إلى التنظيمات الحليفة لإيران. وقد مثّل قاسم سليماني، قبل مقتله مطلع عام 2020، هذا الدور أفضل تمثيل من خلال حركته بين بيروت ودمشق وبغداد ومدن كثيرة أخرى.

المقارنة مع الطّوائف الأخرى

هنا لا تستقيم المقارنة بين مرجعية ولاية الفقية ومرجعيات دينية أخرى ترتبط بها طوائف إسلامية ومسيحية في لبنان، كالأزهر والفاتيكان. كما لا يصمد ادّعاء “الحزب” أنّ الصلة بولاية الفقيه هي صلة إيمانية عباديّة صرفة، وأنّ تحدّيها هو تحدٍّ للمذهب والعقيدة.

لا يعمل الوكلاء الشرعيون الرئيسيون، كنعيم قاسم وقبله نصرالله ومحمد يزبك، في المجال الديني فقط، بل يمارسون أدواراً سياسية مؤثّرة
المذهب الجعفري ليس مذهباً مستحدثاً، بل هو امتداد فكري وعقائدي للمدرسة الشيعية التي تعود إلى الإمام عليّ بن أبي طالب، وإن اتّخذ شكله الفقهي المميّز في القرن الثاني الهجري مع الإمام جعفر الصادق، أي قبل نحو 1,300 سنة. في حين أنّ عمر ولاية الفقيه عمليّاً من عمر استيلاء الخميني على الحكم في إيران عام 1979.

الانسجام مع الهويّة الوطنيّة

قبل ذلك، مارس الشيعة في لبنان عقيدتهم بانسجام تامّ مع الهويّة الوطنية اللبنانية، ومن دون ارتباط عضويّ بمرجعية سياسية مركزية خارجية. فقد توزّعت المرجعيات الدينية على النجف وكربلاء في العراق، مثل السيّد محسن الحكيم وأبو القاسم الخوئي، والمرجعيات المحلّية في لبنان، مثل السيّد عبدالحسين شرف الدين، ومحسن الأمين، الذي ذهب بعيداً في محاولات إصلاح بعض الممارسات التقليدية للشيعة، من دون أن تكون لهذه المرجعيات سلطة سياسية صارمة على الشيعة.

خلا تاريخ الشيعة في لبنان من وجود “وليّ أمر” خارجي يتحكّم بقرار الطائفة. وقامت علاقاتها بالدولة اللبنانية على قواعد وطنية ودستورية ومطالب حقوقية، لا على مشروع سياسي مستقلّ عن الهويّة الوطنية اللبنانية.

الخصوصيّة الشّيعيّة مع الصّدر

حتّى الإمام موسى الصدر، الذي أسّس لخصوصية الشيعة داخل مؤسّسات النظام السياسي اللبناني، عبر إنشاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، حرص دوماً على ما سمّي بنموذج التشيّع الوطني، الذي لا يقيم فصلاً حادّاً بين الشيعة والدولة اللبنانية. وإذ يُلام الصدر لأنّه الأب المؤسّس “لتسييس المذهب”، وربّما فتحه الباب أمام ما آل إليه التشييع لاحقاً، إلّا أنّه في ذروة قيادته للطائفة حرص على عدم ربطها بأيّ مشروع خارجي، أو فكرة معادية للنظام اللبناني.

في المقابل، فإنّ ولاية الفقيه أطلّت على اللبنانيين أصلاً بوصفها مشروعاً أمنيّاً وعسكريّاً، من خلال تأسيس “الحزب” في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. وجدت إيران فرصة لتعزيز نفوذها عبر إنشاء “الحزب” ليكون ذراعاً عسكريّاً لها في لبنان، بتمويل وتسليح مباشرين من الحرس الثوري الإيراني.

تكليف قاسم، ولو ارتبط ظاهراً بشؤون إدارية وماليّة (جباية الخُمس، وهو ضريبة عباديّة يدفعها المؤمنون الشيعة بالإضافة إلى الزكاة)
منذ نشأته أعلن “الحزب” ولاءه المطلق للخميني قائداً دينيّاً وسياسيّاً وعسكريّاً، إضافة إلى مرجعيّته الفقهية. وطوال أربعة عقود، لم يهدأ “الحزب” يوماً في تأسيس كيانه الخاصّ بكلّ أبعاده العسكرية والأمنيّة والاقتصادية، وإحكام الربط التامّ بين هذا الكيان والمشروع الإيراني.

في ذروة اعتراضهم على الدولة اللبنانية، لم يتماهَ اللبنانيون الشيعة مع هويّة غير الهويّة اللبنانية الناشئة من رحم انهيار السلطنة العثمانية. وفي ذروة “قلقهم” من الهويّة الدولتيّة اللبنانية، ظلّوا عليها، ساعين إلى تثبيت مكانهم بين أركانها.

صعود الخمينيّة

أمّا صعود الخمينيّة في لبنان فاقترن بثنائيّة قاتلة.

قُدّم الشيعة ضحايا وجماعةً مستهدفةً لا يحميها إلّا التحلّق حول السلاح. وقُدّموا أيضاً قوّةً تتجاوز لبنان برمّته، وتندرج في ما يسمّى محور المقاومة الذي يمتدّ من إيران إلى العراق وسوريا واليمن… وفنزويلا!

فاقم هذا الازدواج، بين الضعف والقوّة، ارتجاج ثقة اللبنانيين بعضهم ببعض. وخلق انتماء الشيعة المزدوج حالة من الانفصال النفسي والوطني بينهم وبين بقيّة الطوائف، وعزّز النظرة إليهم كجماعة تعيش “في دولة ضمن الدولة”، بجيش مستقلّ واقتصاد موازٍ وتمويل خارجي، ومشروع أجنبي يخرّب مصالح بقيّة اللبنانيين.



تتقاطع كلّ هذه السياقات عند تعيين نعيم قاسم وكيلاً لخامنئي، وتستدرج كلّ الأسئلة بشأن التشييع الولائي بوصفه أيديولوجية سياسية وعسكرية عابرة للحدود، تعطّل بالضرورة الهويّة اللبنانية عند الولائيّين. هذا التعيين ليس مجرّد تفصيل ديني، بل هو ترسيخ لواقع أنّ “الحزب” جزء من النظام الإيراني، في لحظة دفاعه عن نفوذه ووجوده.