طهران تريد لبنان منصّة ضدّ سوريا الجديدة؟-بقلم وليد شقير
شارك هذا الخبر
Saturday, February 8, 2025
يصعب فصل التعثّر في استيلاد حكومة الرئيس نوّاف سلام عن التعقيدات الإقليمية. فالبلد ساحة صراع بين أميركا وإسرائيل من جهة، وإيران من جهة ثانية. وهو ما يلقي بظلاله على إعادة تكوين السلطة فيه، التي لطالما شكّل نفوذ طهران داخلها إحدى أوراقها الإقليمية.
غرقت بعض القوى المحلّية في حملة على رئيس الحكومة المكلّف نوّاف سلام وعلى المرشّح لشغل منصب نائب رئيس الحكومة طارق متري، فضاعت بوصلة اتّجاه الأحداث.
على الرغم من الخسائر التي مُنيت بها طهران نتيجة حرب إسرائيل على غزة، ثمّ على لبنان، وصولاً إلى الزلزال السوري… ما تزال تعاند. وما يعتبره خصوم طهران و”الحزب”، مكابرةً وإنكاراً للهزيمة، هو في نظرها تمسّك بمكتسبات كلّفتها عقوداً من التخطيط والأثمان.
“إزعاج” الغرب بـ”التّعطيل”… ومغامرة “الإسناد”
على الرغم من اعتداد إيران بأنّ بيروت إحدى العواصم العربية الأربع التي سيطرت عليها، كانت ضمناً تخطّط لمزاحمة النفوذ الغربي والأميركي فيه. هدفها على الدوام أن تكون مصدر إزعاج لحليف الغرب الأوّل، إسرائيل، حتّى تحمِل الدول الكبرى على مفاوضتها. غرقت استراتيجية الإزعاج هذه في مغامرة سوء الحسابات بحرب “إسناد غزة” التي انتهت إلى خسائر كبرى.
كانت الترجمة اللبنانية لإزعاج نفوذ واشنطن اكتساب القدرة على تعطيل قرار الحكومات بعد السيطرة على تشكيلها والموازين داخلها. كان نفوذها على الرئاسة الأولى يتيح أن تمسك بزمام الأمور. وحين كانت تتمّ مواجهة التعطيل من الخصوم، كان يُستخدم فائض القوّة والسلاح.
إشارات التّفاوض المتأخّرة مع أميركا
جاءت متأخّرةً إشارات التفاوض مع أميركا، التي أطلقتها القيادة الإيرانية بعد انتخاب الرئيس مسعود بزشكيان. على الأقلّ هذا ما أبلغه وزير عربي لعب أدواراً في نقل الرسائل بين واشنطن وطهران، للجانب الإيراني قبل أشهر، حسب معلومات “أساس”. وهذا ما يفسّر التخبّط في المواقف الإيرانية. ولم ينفع استباقها لحملة “الضغوط القصوى” التي بدأها دونالد ترامب أوّل من أمس بالعقوبات على تصدير النفط الإيراني إلى الصين. واجه المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي اغتيال السيّد حسن نصرالله بدعوة اللبنانيين إلى “المقاومة”، متوقّعاً انتصارها. وحين نظّم “الحزب” دخول محازبيه وأنصاره القرى الحدودية التي لم تنسحب منها إسرائيل، وسقط 26 قتيلاً لبنانياً، اعتبر خامنئي ذلك انتصاراً عظيماً لـ”المقاومة”. سقوط بشار الأسد بعد انسحاب الميليشيات الإيرانية و”الحزب” من بلاد الشام رأى فيه مخطَّطاً أميركياً إسرائيلياً متوقِّعاً نهوض “المقاومة”، وواكبته تصريحات بهذا المعنى من الخارجية و”حرس الثورة”. آخرها في 4 شباط الجاري من قائد الحرس حسين سلامي حين قال: “الوضع في سوريا لن يبقى على حاله، و”الحزب” ظلّ صامداً على الرغم من الضربات الثقيلة التي تلقّاها”.
أهداف الامتناع عن تسليم السّلاح
ثمّة إشارات إلى أنّ طهران “تقاوم” محاولات واشنطن تكريس ميزان إقليمي للقوى بناءً على نتائج حرب إسرائيل ضدّ “الحزب”، وعلى الضربات الجوّية التي تلقّتها على أراضيها من قبل إسرائيل، وعلى الزلزال الذي أخرجها من سوريا:
– امتناع “الحزب” الضمنيّ عن تفكيك بنيته العسكرية جنوب الليطاني وفق اتّفاق وقف النار، على الرغم من موافقته عليه عبر الرئيس نبيه بري في 27 تشرين الثاني الماضي. إسرائيل اعتمدت ذلك حجّة لتمديد بقائها في قرى الحافة الأمامية لممارسة أعمالها العدائية بمضاعفة التدمير الذي أحدثته قبل الاتّفاق. وفصله وجود السلاح جنوب الليطاني عن شماله أدخل الوضع العسكري جنوباً بدوّامة مفرغة: إسرائيل تتذرّع بتمنّع “الحزب”، والأخير يتذرّع ببقاء إسرائيل للاحتفاظ بترسانته. هكذا يتمدّد قصف العدوّ من الجنوب إلى البقاع، كما حصل أوّل من أمس. يسمح ذلك لأوساط سياسية بقراءة هذه الإشكالية على أنّ طهران تحتفظ بالصواريخ الدقيقة البعيدة المدى (لم تُستخدم خلال حرب الإسناد) لاحتمال مواجهة مع إسرائيل إذا أطلق ترامب يدها العسكرية ضدّ إيران. هذا إذا لم تستجب لأفكاره التفاوضية حول ملفّها النووي وبرنامجها الصاروخي والجوّي، وتخلّيها عن أذرعها الإقليمية. أخذت الضغوط القصوى على طهران أبعاداً واسعة في الأسبوعين الماضيين. وليس صدفة أن تتزامن الضربات ضدّ امتداداتها في ألمانيا والسويد ودول أوروبية أخرى. تضاف إليها تسريبات عن محاولاتها تهريب الأموال عبر جهات ثالثة إلى “الحزب” في لبنان.
طلب طهران رعاية نازحين إيرانيّين
– كانت لافتة زيارة نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون القنصلية وحيد جلال زادة بيروت في 31 كانون الثاني الماضي. فهو طلب من الحكومة اللبنانية أن “تحتضن وترعى الأخوة السوريين الذين نزحوا نتيجة المستجدّات إلى لبنان من سوريا، وعدد منهم من أصول إيرانية”. والتقى بري ووزير الخارجية عبدالله بوحبيب والمدير العامّ للأمن العامّ اللواء الياس البيسري لهذا الغرض. والتقى أيضاً عدداً من الإيرانيين المقيمين في لبنان وسوريا، وأشار إلى أنّ “حوالي 130 ألف سوري نزحوا”.
تساءل مراقبون عن أبعاد أمنيّة لبقاء هؤلاء على الأراضي اللبنانية (في منطقة بعلبك – الهرمل القريبة من الحدود مع سوريا). فالمئات منهم ينتمون إلى الميليشيات الموالية لحرس الثورة التي استقدمتها طهران لحماية النظام المخلوع وترسيخ نفوذها. وبعضهم انسحبوا من سوريا مع أسلحتهم. فهل يكون لهم دور في سعي طهران إلى تغيير “الحال” في سوريا؟ تهريب من مستودعات أسلحة في سوريا؟
– تقول مصادر سوريّة لـ”أساس” إنّ “الحزب” يسعى منذ سيطرة إدارة العمليات العسكرية في 8 كانون الثاني، إلى استعادة أسلحة ثقيلة وخفيفة من مستودعات سرّية احتفظ بها في سوريا، لنقلها إلى لبنان عبر طرق التهريب غير الشرعية التي تحاول السلطات الجديدة إقفالها. وغالباً ما تشتبك مع مهرّبي السلاح وغيره. آخر هذه الاشتباكات الصدام العنيف بينها وبين مسلّحين مدعومين من “الحزب” في قرية “حاويك” السورية التي يقطنها لبنانيون، منذ الخميس الماضي. وتربط المصادر نفسها بين هذه المحاولات وبين تعاون محتمل بين فلول إيران وما تسمّيه فلول الميليشيات المؤيّدة للنظام المخلوع في الساحل السوري وبعض ريف حلب الشمالي وحمص.
الخلاف على الشّيعيّ الخامس
ما علاقة ذلك بتشكيل الحكومة اللبنانية والخلاف على تسمية الوزير الشيعي الخامس؟
يستدلّ البعض من الإشارات المذكورة على أنّ طهران لن تسلّم بمستجدّات الأشهر الماضية الجيوسياسية وتسعى إلى “مقاومتها”. وهذا يشمل عدم تخلّيها عن نفوذها في قلب السلطة اللبنانية والاحتفاظ بقدرتها التعطيلية داخلها على الرغم من تسليمها برئاسة العماد جوزف عون مضطرّة. وحاجتها إلى الارتداد على هذه المستجدّات تملي على “الحزب” أن يبقي على دوره السابق، فيما يسعى خصومه إلى إفقاده امتياز التعطيل الذي تمكّن من الاحتفاظ به بعد ثورة 17 تشرين 2019 ضدّ المعادلة السياسية والتدهور الاقتصادي.
نجح “الحزب” في ذلك، فحال، بتحالفه مع الرئيس ميشال عون، دون تشكيل رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري حكومته التي كانت معاييرها تشبه معايير الرئيس نوّاف سلام، فاضطرّ إلى الاعتذار. وتسبّب إصرار “الحزب” وحلفائه على الاحتفاظ بقدرة التعطيل باعتذار السفير مصطفى أديب بعدها. لكنّ حكومة حسان دياب وحكومة نجيب ميقاتي التي تتولّى تصريف الأعمال حالياً أخذتا كلٌّ على طريقتها بمتطلّبات المرحلة عند تشكيلهما. استطاع سلام الحؤول دون حصول “الحزب” على الثلث المعطّل في تشكيلته الحكومية، وحين سعى إلى الحيلولة دون حصول الثنائي الشيعي على القدرة التعطيلية باسم الميثاقية، تعثّرت ولادتها. برفضه التسليم بتسمية الثنائي للوزراء الشيعة الخمسة يحول دون أيّ إمكانية لأن تتسبّب استقالتهم جميعاً بتعطيلها بحجّة أنّ مكوّناً طائفياً انسحب منها. فسلام يمثّل فريقاً واسعاً من اللبنانيين يريد تحييد البلد عن مجريات المواجهة أو التفاوض بين طهران وواشنطن. هذا علاوة على تحوّطه لتعطيل الإصلاحات المطلوبة.
ما يعاكس القراءة المذكورة هو السؤال عن إصرار الرئيس برّي على تسمية الوزير الشيعي الخامس، وهو الذي تمايز عن “الحزب” وعارض زجّ الجنوب بحرب الإسناد الإيرانية؟
الخشية من استضعاف الطّائفة
ثمّة من يعتقد أنّ برّي المتخوّف دائماً من أن ينسحب استضعاف “الحزب” على دور الطائفة المرجِّح، الذي اكتسبته بفعل قوّة السلاح. وهو الدور الذي كان ينتج بحنكته نفوذاً استثنائياً بالدولة، وربّما كان سعيه إلى احتكار التمثيل الشيعي صمام أمان لذلك النفوذ المتراكم. ولذلك لم يكتفِ، على الرغم من تمايزه عن “الحزب”، بتطمين نوّاف سلام له الذي كلّفه من رصيده الشخصي، كما قال، بإسناد حقيبة المال إلى الطائفة. المؤكّد في هذا المجال، حسب معطيات دبلوماسية غربية، أنّ برّي لم يحصل على وعد بأن يكون له أو لـ”الحزب” أيّ ثمن في المعادلة الداخلية، مقابل دوره في ترجيح اتّفاق وقف النار في الجنوب.