معجزة الحفيدة زوي في استعادة الحبر والورقة-بقلم أنطوان العويط
شارك هذا الخبر
Saturday, February 8, 2025
وقف الجدّ عند العتبة، تحمل عيناه أشهراً من الحنين، قل ما لا يمكن قياسه من التوق والوله، ومن حكاياتٍ مؤجّلة عن العصافير وجمهور القردة والدلافين والفيلة ورفاقها ورفيقاتها من عوالم الغابات وأنهار الحياة. كان الجدّ من كثرة هزائمه، يتكوّن بعضه كالحبْر وبعضه الآخر كالورقة. يعترف. كلّه سواد لولا بياض بعضه الورقة. وما بينهما بعضه الحبْر وبعضه الورقة، هو قطعاً مغلوبٌ مكسورٌ محطّمٌ. ليسَ لقلَّةِ حجَتّه، بل لأنّه حدثَ أن جفّ الحبر وتشلّعت الورقة، إلى أن أتى الحفيدة برفقة الجدّة، وقد خيّل لهما أنّ الكهف هواء وماء وضوء، فكان أن أعادت الحفيدة غسل روحيْهما بالندى وأن أستعادت له الحبر والورقة. ليس ارتحالاً غادر الجدّ والجدّة الذين أوصلوا الوطن إلى قعرٍ معيب، خانع راضخ وذليل، لا يتوانى فيه أحد عن إهانته وإنسانه، ولا يقصّر أحد في تمريغ أنفتهما وكبريائهما وسيادتهما. فهما أصلاً في غربة عن هؤلاء، وفي هجرةٍ من دون سفر. هو الشوق إلى زوي الطفلة الحفيدة الملاك، حملَهما. إلى البسمة التي، بحرّيةٍ بحرارة بحنوٍّ وببراءة، تسبح في فضاء العجائب، تحبك علاقة من أريج الورود، وتحلّق كهواء، الأصحّ كبساط ريح، في قصص عن ينابيع وحدائق. هناك، على أريكتها المفضّلة، جلست زوي، أميرة العام والنصف، وقد تعلّمت خلال الأشهر الستّة التي مضت منذ آخر لقاء مع الجدّ والجدّة، كيف تستوي على قدميها، بل كيف تهرول ملاحقة ظلّها، ولا بأس بمنافسة الفراشات والأرانب. بعينين واسعتين تطلّان على بحرٍ من حيرة مغناج، راحت تراقب جدّها متسائلة: من يكون هذا القادم بوجهه المألوف والغريب في آن؟ يقترب منها ببطء، لا يريد أن يُربك قلبها الصغير، راسماً على شفتيْه ابتسامةً يعرف أنّها لغة العالم الأولى. يمدّ يده بحذر، فتتراجع قليلاً، تقيس المسافة بين الأمان والمجهول، وتشّد على أصابع أمّها بريسيلا، كأنّها تبحث عن يقينٍ صغير. لا يتراجع هو، بل يبقى هناك، منتظراً، رافعاً يديه، كمن يقدّم للريح فرصةً أن تلين، أن تهدأ، أن تتحوّل نسيماً. عندها، نادته زوي بيدها الصغيرة ملوّحة، ثم ضحكت بعد سماعها أغنيتها المفضّلة التي دندنها. كأنّها وجدت كنزها، كأنّها عرفت أخيراً: هذا جدّي! ولمّا ضمّها بتشجيع من رواد والدها، شعرت أن حضنه ليس غريباً، بل امتداد لما كانت تعرفه دائماً، من روابط عاصية على الفهم والإدراك. هكذا، كسرا الجليد معاً، كما لو أنّ زمن الفراق لم يكن سوى لحظة انتظار. ثوانٍ تمضي قبل أن تشير بيدها إليه، واثقةً كأنّها تمسك بخيوط النهار، تقوده نحو وهجه. تدلّ بعينيها قبل أصابعها إلى دميتها الملقاة هناك، إلى المكعّبات التي لم تكتمل أبراجها بعد، إلى الكرة التي تنتظر أن تتدحرج بين كفيْن يليق بهما الفرح. تريده أن يلعب معها، أن يفترش الأرض مثلها، أن يعود طفلاً. فاتها أنّه الطفل الذي لم تفارقه بدايات النقاء، ولن. مُعْتِمٌ هو البؤس، الرجال والحرب. أولئك يظنّون أنّهم يملكون عرشَ الزمان. خسِئوا. أرض الحبّ لا يحدّها زمن أو مكان، لدى من يملكون قلبَ طفلٍ. فايْقِظي يا زوي ما طابَ لكَ من طيور، وأشْهِري الحرّية لأنّها نبض، ولأنّكِ أنتِ هو العصفور. الطفلُ هو أنا. ينظر إليها الجدّ مذهولاً كيف لهذه الصغيرة أن تقوده، أن تنتشله من ذاكرته المثقلة بظلام وطنه وآلامه وكان يظنّ أنّ العتمة حقيقة. التقطت له قطعةً من أحجية، وأرته أين عليه أن يضعها. وحين أحسن الفعل، صفّقت بفرح كأنّها تبارك له انتصاره الصغير. تكافئه بلمسة على خدّه، بغمزة ماكرة، كأنّها تهمس له: "أحسنتَ، جدّي... أنت تتعلّم بسرعة"! وهو يضحك بنشوة أعماق لم يكن يدري أنّها لا تزال تسكنه، فزوي استرجعت له حبْك القصيدة بسرّة الحياة. وفجأة، على وقع الموسيقى التي تنبعث من لعبةٍ في زاوية الغرفة، تهتزّ قدماها، تلتفّ حول نفسها برقّة، تدور، وكزهرةٍ تكتشف رقصة الريح. ثمّ، في لحظة خاطفة، تتوقّف، تلتفت إليه، تعلي يديها... لا تطلب سوى أن يحملها، أن يجعلها تحلّق في سماء الخيالات والرؤى، أن ترى العالم من علوّ يليق بحلمها الطفوليّ. يمسكها، يسمو بها عاليّاً، فيشعر كأنّما يحمل العمر كلّه في راحتيْه. ليعود فيقرّبها إلى صدره، فتميل برأسها على كتفه، كأنّها تستقرّ أخيراً إلى حيث طالت لديه آهات الأماني وغايات المشتهى. وكأنّ العالم كلّه كان انتظاراً لهذا العناق. وها هو يتشبّث بمعجزة اسمها الحفيدة. بتعجّب، باندهاش، بانبهار، يخضع صاغراً لسطوة هذا الحبّ الذي يفتح في قلبه نوافذ على الأنس والوجد والانخطاف. دقائق تمضي حابسة أنفاس المشهد المبهر، قبل أن يرنّ جرس الإنذار معلناً قدوم ضيفٍ منافس. ها هي الجدّة صونيا، بلا عناءٍ يُذكر ولا جهدٍ يُبذل، ودون حاجةٍ لأيّ مناورات، تفتح ذراعيها بما يشبه فتح أبواب الزمن. حضْنها ذاك الذي يلتحف عباءة الحبّ، يحتضن الحفيدة كأنّه يضمّ العمر بأكمله بين ثناياه. وعلى وقع المفاجأة الصاعقة، يمتلئ الجدّ بالجمود، فالحدث أخذه على حين غفلة. فالحفيدة تستكين بين ذراعي الجدّة كطائر أرهقه البحث عن مأوى، فوجد عشّه الأول...ولا تكتفي. ها هي تعبث بأناملها الصغيرة في طيّات ثوب الجدّة، مستكشفة سرّ الدفء الذي لا يفنى، ثم تتلمّس وجهها برقّة تشبه حفيف أرواق الصفصاف. تلجأ إلى صدرها، ذلك الذي يشبه وسائد الغيم، على رضى بالغ لقصص المودّة التي تُروى بلا كلمات، حيث تُنقل المعاني عبر نبض القلوب. صبرك أيّها الجدّ ومهلاً. قد تكون خسرت جولة، لكنّك لم تخسر المعركة. وبغيرةٍ ناعمةٍ لا يعترف بها، يبدأ بإعداد خطّته. يتقدّم. يجري. يركض. يهرول ويفتعل العجائب. يراقص الأرجوحة. يصفّق بيديْه. ينادي دبَّها اللطيف ذاك الذي يسكن وسادتها ويحرس نومها. يلوّح بسمكتها التي تلمع في بحر من الضوء، ويروح يشدو مقلّداً الخراف وسناجيب لا تعرف السكون. لكن... لا تَجاوُب. أمِنْ حيل أخرى؟ ماذا عن أغنية قرش من هنا وطفل وعصفور من هناك؟ وما رأيكم بالعجوز مكدونالد ومزرعته؟ عن سعدان يتدلّى وأوزة وبقرة وحصان؟ كان على الجدّة، بكرم زوي تجاهها، أن توقف هذه السرديّة مُشفقة على المتيّم المفتون. اشترطت عليه عدم خوض المعركة مجدّداً، غداً أو بعد غد. فزوي الحفيدة، عطشنا لها لا يرتوي، ولهفتنا لا تعرف الاكتفاء. وإذ تستعدّ أميرتي لمغامرة النوم، غارقة في السعادة، ترفع وجهها إلى القمر ليضيء ليلها عن قرب. وكمن يقطف نجمة من سماء بعيدة ويخشى أن تضيع منه، أسرَحَ الجدّ يده في شعرها الناعم كالحرير، وبقبلة على رأسها أملاً بغدٍ أروع، وبكثافة من فرح الفؤاد، ودّعته الحفيدة: "تصبح على خير"، بملائكيةٍ من شغفٍ معتّق بمواكب الترانيم، وبمرافقة صلوات قيثارةٍ رفعتها الجدّة بخوراً وبلسماً. تستسلم زوي لملكة النوم، البريئة ببياض الكلمة، بدم الشاعر الذي، عندما ينشد، يخترع الحبّ من أجل أن تعتمر الحياة لباس العيد، وأن يتحوّل الليل إلى نهار.