سقطت أساطير الممانعة وبقي الرّعاع- بقلم مصطفى علوش
شارك هذا الخبر
Thursday, January 30, 2025
“لكنّ سماءك ممطرةٌ وطريقك مسدودٌ.. مسدود
فحبيبة قلبك.. يا ولدي نائمةٌ في قصرٍ مرصود
والقصر كبيرٌ يا ولدي وكلابٌ تحرسه.. وجنود
ستفتّش عنها يا ولدي في كلّ مكان
وستعرف بعد رحيل العمر بأنّك كنت تطارد خيط دخان“
(نزار قبّاني)
أستذكر في هذا المقال كلام جدّتي وأمثلتها عند خيبة الأمل، ومنها “شو بتذكّرك يا سفرجلة غير كلّ لقمة بغصّة”. هكذا سيذكر الناس معسكر الممانعة العظيم.
كلّ الناس يعشقون النهايات البطوليّة حيث تقوم شخصية محورية في حدث ما بالتضحية الكبرى بالحياة في سبيل هدف نبيل افتراضيّ. هذه الثقافة ليست محصورة بشعب واحد ولا عقيدة محدّدة، بل هي مرتبطة بحال نفسيّة تعبّر عن التعاطف والتسامي. لقد شاهدت في حرب السنة الماضية، بشقّيها الفلسطيني واللبناني، العديد من محطّات التضحية والبطولة الأسطورية في لحظة النهاية، وأظنّ أنّ مشهد يحيى السنوار وهو يلوّح بالعصا أمام القتلة الهمجيّين، تعبيراً عن الثورة والتضحية لآخر نفس، لن يُمحى من الذاكرة. الواقع هو أنّه لا يمكن لعاقل أن يتّهم السنوار أو يقلّل من شأنه، فما حصل في طوفان الأقصى ما هو إلّا تعبير عن الرغبة البشرية الدائمة بالانعتاق وكسر القيود والثورة على الذلّ والإهانة، هذا على الرغم من كلّ ما نتج عن العملية من انتهاكات بالغ في وصفها الصهاينة لتسويغ ما هو أبشع بآلاف المرّات في الجرائم. وقد يمدح البعض النجاح العسكري وحسن التخطيط الذي جعل من تلك العملية نوعاً من الأسطورة.
كلّ الناس يعشقون النهايات البطوليّة حيث تقوم شخصية محورية في حدث ما بالتضحية الكبرى بالحياة في سبيل هدف نبيل افتراضيّ هذه المقدّمة لازمة حتى لا نبخس المسألة قدرها. لكن، منذ اللحظات القليلة التي تلت تلك العمليّة، سقطت نتائجها في دوّامة خطيرة متدحرجة إلى الحضيض في الخسائر وسوء التقدير. هذا القصور في التقدير كان في فهم طبيعة الردّ الصهيوني، أو يجوز القول الفعل الصهيوني المخطَّط له على الأرجح مسبقاً، وقناعتي أنّه لو لم يحصل طوفان الأقصى لكان الفكر الصهيوني العنصري افتعل شيئاً مماثلاً لتسويغ ما يسعى إليه. ما ظنّه البعض هو أنّ العدوّ الجبان سينهار ويهرب من ساحة المعركة، وقد حصل بعض ذلك بهجرة مضادّة لمئات آلاف اليهود بعد العملية وخلال الحرب، لكنّ المؤكّد هو أنّ الأكثرية الساحقة من يهود إسرائيل صهاينة وعنصريون للعظام، يساراً ويميناً ووسطاً.
سوء التقدير الثاني كان في ردّة فعل معسكر الممانعة. فمن المنطقي أنّ السنوار كان على يقين أنّ كلّ مكوّنات هذا المعسكر ستهبّ هبّة رجل واحد، بدءاً بـ”الحزب” وألوية “زينبيون” و”فاطميون”، بالإضافة إلى الحشد الشعبي والحوثيين، والأهمّ هو صدق الوعد بآلاف الصواريخ الإيرانية التي كانت ستنهمر كحجارة من سجّيل لتمحو الكيان الغاصب بدقائق. ربّما لم يُبلغ السنوار أحداً بما سيحدث بالتفصيل، وربّما لم يضع هو أصلاً أحداً بواقع العملية وحجمها، كما صرّح قادة المعسكر لاحقاً بهدف التنصّل، لكنّه، بناء على الوعود التي افترض أنّها صادقة، ظنّ أنّه سيستدرج الجميع للمشاركة في الانتصار. وهنا كان الحساب الخاطئ الأكبر، ومعه أيضاً الخيبة الكبرى.
سوء التقدير كان بُعد طهران عن أرض المعركة، وعدم قدرة دولة العدوّ على الوصول إليها، فجاء الخرق متعدّد الأوجه وعظيم التأثير الكارثة الكبرى
الحساب الخاطئ الثاني كان عند “الحزب” في استدراجه إلى ساحة المعركة في حرب الإسناد، وهو ما كان يخشاه الصهاينة، لكنّ بعضهم كان يطلبه ويتمنّاه. حساب “الحزب” هو أنّ العدوّ الذي جرّب حرب 2006 سيفهم الدرس ويتحاشى فتح وكر الدبابير عليه من جنوب لبنان وهو مشغول بغزّة. ظنّ أنّ المناوشات والمداعبات العنيفة على الحدود ستكفي لحفظ ماء وجه الممانعة، لكنّها لن تؤدّي إلى حرب مفتوحة وغير مرغوبة، وإن حصلت فالحزب مستعدّ لها بالشكل الكافي للردع. سوء التقدير كان هنا بنوعيّة وحجم ردّ العدوّ، من تفجير أجهزة “البيجرز” إلى الاستهداف الممنهج للعناصر، ثمّ القضم البطيء والمدمّر للقرى الحدودية. أتت خيبة الأمل هنا من تنصّل نظام الأسد من المعسكر، وإعاقته المدد المطلوب لـ”الحزب” للصمود، والخيبة الأخرى غير المعلنة كانت من ضآلة مشاركة الدولة الأمّ في المعركة، على الرغم من الوعود والقدرات المبالغ فيها.
سوء التقدير الثالث كان بُعد طهران عن أرض المعركة، وعدم قدرة دولة العدوّ على الوصول إليها، فجاء الخرق متعدّد الأوجه وعظيم التأثير، وهو مرشّح للمزيد حسب رأيي خلال فترة حكم دونالد ترامب.
سوء التقدير الرابع والأكثر حسماً كان في قدرات نظام بشّار على الصمود، وفي جدّية دعم روسيا للمعسكر وحمايته، فكان سقوطه السريع كارثة كبرى لا يمكن مقارنتها بأيّ حدث آخر ضرب هذا المعسكر، لأنّه بكلّ موضوعية قصم ظهره، وعلى الأرجح أنهاه بشكل كبير. بالطبع سوء التقدير هذا أدّى إلى خيبات أمل عظيمة أدّت بدورها إلى تغيير قواعد اللعبة بأكملها، وعلى الأخصّ بعد محاصرة الذراع الأهمّ للمعسكر عسكرياً وماليّاً وسياسياً في لبنان. وهنا أتت خيبة الأمل الإضافية من قبل “جمهور المقاومة” تجاه إيران أوّلاً، ثمّ تجاه “الحزب”، ولن أستطرد بهذا الأمر أكثر.
ما جرى خلال الأيّام القليلة الماضية، بعد انتهاء مدّة وقف إطلاق النار الافتراضية، سيدخل سريعاً في سوء الحسابات القاتلة، ثمّ في خيبة آمال لا حصر لها كنت أتابع قبل أيّام كلام أحد مدّاحي معسكر الممانعة وهو يعود ليتقوقع في مذهبيّته معلّقاً على تجاهل قيادة حماس “السنّية الإخوانية” ذكر تضحيات “الحزب” في حرب الإشغال، وهذه بلا شكّ خيبة كبرى لمن فقد ذاته بكاملها تضامناً مع أناس من “مذهب آخر”! وأظنّ أنّ هذا الأمر هو نقطة التحوّل الكبرى التي أسقطت، إلى غير رجعة، هذا المعسكر.
لكنّ ما جرى خلال الأيّام القليلة الماضية، بعد انتهاء مدّة وقف إطلاق النار الافتراضية، سيدخل سريعاً في سوء الحسابات القاتلة، ثمّ في خيبة آمال لا حصر لها.
لا لتجريب المجرَّب
لا أحد يمكنه أن يلوم المواطن الجنوبي على حميّته وشوقه للعودة إلى أرضه ومنزله، حتى وإن كان ركاماً، فالبيت هو صنو الوجود والكرامة، لكنّ المغامرة بالأرواح، أو تشجيع الناس للتضحية بأرواحهم للقول إنّ “الحزب” ما زال هنا، وما زال يمون على أعناق الناس، وإنّه على الرغم من كلّ ما حصل ما زال لاعباً أساسياً في المعادلة، الداخلية على الأقلّ بعد فناء دوره الإقليمي. سوء التقدير هنا هو في ردّة فعل العدوّ الهمجي التي أدّت إلى سقوط شهداء جدد بعدما ظننّا أنّ حلقة الموت قد كُسرت. لكنّ الجميع يدرك أنّ “الحزب” يعلم بهمجيّة العدوّ، ولذا سوء التقدير غير وارد، والأحرى بـ”الحزب” أن يصدر التكليف الشرعي باتّباع توجيهات الجيش اللبناني وليس العكس. هنا، وبعد خيبات أمل عديدة، ستأتي حتماً خيبات جديدة لجمهور “الحزب” الذي قدّم أغلى ما عنده فداء للسيّد وغيره، عندما يدرك أنّه يضع ثقته بأسطورة أو سراب أو خيط دخان.
سوء التقدير الأخير هو قدرة الرعاع راكبي الدرّاجات غير المرخّصة على تكرار تجربة القمصان السود وليّ ذراع السلطة الجديدة، بل كسرها، تكراراً لما حصل على مدى العقود الماضية، أي منذ اتّفاق الطائف، مع حكومات افترضت أنّها ستكون إصلاحية لتتمكّن من الاستفادة من المساعدات بشكل فعّال، فتحدث نقلة نوعية في الإدارة والاقتصاد وربّما في الحياة السياسية. هذه الحكومات سقطت كلّها بحكم ولادتها وهي محمّلة بوزر “الوفاق الوطني” الغبيّ، وهو ليس بين الطوائف حسب الدستور، بل هو وفاق مع الفساد في السلطة. وما إن يحصل استثناء واحد من أجل الوفاق الوطني المدعوم بالرعاع، كانت تنهار كلّ الآمال بسرعة هائلة لتعود “حليمة لعوائدها القديمة”. قد يكون سوء التقدير هنا من قبل موجّهي الرعاع بأنّ الأمور ما زالت على حالها في موازين القوى، مع أنّ الأمر ليس كذلك. لكنّ الخوف هو من سوء تقديرٍ عند السلطة الناشئة لحجم وقدرات الرعاع على تخريب مساراتها لتأليف الحكومة، ثمّ الانصياع لهم خوفاً على “الوفاق الوطني”.
لقد حمل التغيير الجذري في قواعد اللعبة آمالاً عريضة للناس، لكن اليوم يبدو أنّ سوء التقدير سيحمل معه خيبات أمل كبرى للناس الذين ينتظرون بارقة أمل. على السلطة الناشئة ألّا تكرّر سقطات السابقين، فمن “جرّب المجرَّب كان عقله مخرَّب” لأنّه من علامات الجنون تكرار ما فشل وانتظار نتائج أخرى!