2024: زلزال دمشق وصحوة الإسلام السّنّيّ- بقلم رضوان السيد
شارك هذا الخبر
Monday, December 30, 2024
شهد عام 2024، في قلب وعقل الإسلام العربي السنّي، صحوة على القضيّة الفلسطينية قادتها حماس و”الحزب”، وأفادت منها إيران، لكنّها خلّفت إحباطاً كبيراً بعد شهورها الأولى بسبب الخيبات والإبادات. ثمّ شهدت أواخر العام نشوة بسبب تحرّر الشعب السوري من حكم آل الأسد. وفي هذه النشوة آمال عِراض حتى لقضيّة فلسطين، ولثقافة المدن العربية وحضارتها وحبّها للحرّية وكراهيّتها للطغيان والطائفية وقتل البؤساء، وأمل بالسلم والاستقرار وتجنّب التطرّف وإعادة البناء والاحتضان العربي.
يتنافس المتنافسون في تشخيص متغيّرات السياسة الإسرائيلية تجاه القضية الفلسطينية، بعد هجوم حماس (الذي سمّته طوفان الأقصى) على مستوطنات غلاف غزة في 7 أكتوبر عام 2023. لكنّ ذلك كان في الحقيقة محسوباً منذ صعود حكومة اليمين المتطرّف في إسرائيل بعد الانتخابات هناك. فالتشخيص والاستنتاج ينبغي أن ينصبَّا على محاولة فهم هجوم حماس على مستوطنات غلاف غزة في التاريخ المذكور. وهو تصرّفٌ متهوّر، بالنظر لما هو معروف عن حكومة اليمين المتطرّف، وعن التفوّق المشهود للجيش الإسرائيلي التكنولوجي والعمليّاتي:
– هل أرغمت إيران حماساً على خوض المعركة؟
– هل بلغت حماس ذروة قوّتها وأرادت تجريبها؟
– هل تسبّب الإسرائيليون بالحرب المعلنة على الفلسطينيين بقيام حماس بردّة الفعل العنيفة تلك؟
– ومَن المنتصر ومَن المهزوم الآن بعد مضيّ سنة وثلاثة أشهر على الحرب الشعواء؟
يستطيع أيّ طرف أن يثير الحرب، لكن لا يستطيع أن يحكم تطوّراتها ولا تداعياتها ونتائجها على الطرفين، وعلى المحيط المجاور. وهو في حالة غزة والشرق الأوسط كلّه، ويشمل العرب، كما يشمل دول الإقليم والعالم، ويشمل مجتمعات الطرفين، أعني الإسرائيليين والفلسطينيين والعرب والمسلمين.
أوّل مكاسب الحرب
أوّل وقائع الحرب وأبرز نتائجها على الجانب الجماهيري، المكاسب الكبيرة التي حصدتها حماس (واستطراداً جماعات الإسلام السياسي) في المديَين العربي والإسلامي. فقد فوجئ الجمهور مفاجأةً سارّةً بقدرات حماس في السلاح وفي الخطط، وانتشرت على مئات المواقع التهاني وانتظار هزيمة إسرائيل أو نهايتها.
عندما اشتدّت قسوة الحرب على حماس والضفّة و”الحزب” في جنوب لبنان، وبعد ستّة أشهر ظهر التمايز في الجمهور. فقد صمد مع حماس و”الحزب”، الإسلامويّون (الإخوان المسلمون ومتفرّعاتهم)، في حين بدا الجمهور متفاجئاً مرّةً أخرى بالعنف الإسرائيلي المستطير وبالتفوّق الإسرائيلي العسكري والأمني والتكنولوجي.
الإسلامويّون (إخواناً وجهاديّين) قالوا إنّ الوقائع أثبتت أنّه لا يمكن مواجهة العدوّ الصهيوني إلا بالقوّة، وستكون الشهادات عالية. لكنّ هذا المعتاد عليه في حروب التحرير، وبخاصّةٍ في فلسطين. ففلسطين فيها عِرْق ديني وآخر تاريخي وثالث عربي، ورابع وطني، وخامس دولي وإنساني. وقد حصّل ياسر عرفات ما أمكن بالعروبة والدولية والإنسانية، وعلينا تحصيل الباقي بالإسلامي والوطني.
في شهر الحرب التاسع، وقد عمّت التظاهرات شوارع عمّان ودول عربية وإسلامية أُخرى، تصاعد الكلام من الإسلامويين على وسائل الإعلام من تركيا عن تقصير الدول العربية تجاه ما يحدث في غزة. وقد اعتبر البعض إيران متخاذلة بعدما دفعت باتّجاه الحرب. وأثنى عليها آخرون، وبخاصّةٍ بسبب قيام “الحزب” بحرب الإسناد. أمّا تركيا فقد لقيت ثناءً عاطراً من جانب الإسلامويين العرب الذين تحتضنهم.
نهوض حزبيّ
في قلب المشهد حدث نهوضٌ له طابع حزبيّ مع بعض الشعبوية بسبب حرب غزة. إنّما هناك انقسام بشأن الجهة أو الجهات التي ينبغي التحالف معها أو التماس الاحتضان بين إيران وتركيا. فالقريبون من حماس والجبهة مع إسرائيل يؤْثرون الانضواء تحت لواء حماس و”الحزب” وإيران.
بيد أنّ الأقلّ حزبيّة، الذين لجأوا إلى تركيا، يلوذون بزعامة رجب طيب إردوغان، ومنهم الإخوان في سورية ولبنان. وسيزداد هذا الانقسام إذا تفاقم الصراع بين إيران وتركيا. إنّ الجامع بين هؤلاء، فيما وراء الانقسام الولائي، هو الحزبية والمعارضة، وهم في الغالب في المنافي بين أوروبا وتركيا. أمّا أنصار إيران فقد كانوا يتمركزون بطهران والعراق وسورية ولبنان واليمن. وهكذا كانت إيران حتى حرب غزة متفوّقة في اجتذاب الإسلام السياسي السنّيّ.
الإسلام
إنّ هناك صحوة حزبية إخوانية إذاً، لها أبعاد شعبوية محدودة، بدليل ما حصّلته من أصوات في الانتخابات الأردنية الأخيرة. وكما سبق القول، فإنّ هذه الصحوة أفادت منها إيران في شهور حرب غزة الأولى، وبدا كأنّ “وحدة الساحات” حقيقة، لأنّه لثوران غزة ثار “الحزب” اللبناني والميليشيات العراقية والحوثيون اليمنيون وحتى الجماعة الإسلامية في لبنان!
لكنّ الشهور الأخيرة في الحرب التي لم تنتهِ بعد، والتي لم تحقّق فيها الجبهات السبع (التي تحدّث عنها نتنياهو) نجاحاً، ولقيت فتكاً من إسرائيل، دفعت كثيرين للالتفات إلى تركيا أو الهجرة إليها للوقاية.
النّشوة تفوّقت على الصّحوة
إنّ حالة الصحوة تلك التي يتحالف فيها أنصار الإسلام السياسي السنّي مع إيران بسبب قضيّة فلسطين، تتفوّق عليها في الشهر الأخير من شهور عام 2024 حالة النشوة، التي حدثت مع سقوط النظام الأسديّ في سورية. والنشوة السنّية الغامرة الآن، وليست في سورية فقط، سببها الخلاص من النظام الأسديّ الذي حكم سورية خمساً وخمسين سنة.
للنشوة أسبابها المتعدّدة. فقد كان يقال إنّ الاستعمار الفرنسي يفضّل الأقلّيات، بينما يفضّل البريطانيون حكم الأكثرية. وما استقرّت سورية بعد الاستقلال إلّا خمس سنوات، وبعد الوحدة مع مصر سقطت في يدّ القلّة من الضبّاط، ثمّ في يد القلّة من الحزبيين.
في عام 1988 كتب السوسيولوجي الفرنسي ميشيل سورا مقالةً بعنوان: سورية الدولة المتوحّشة. في هذا الوقت المبكر كان التوحّش متمثّلاً في بناء عصبيّة سلطة وحكم تحكم البلاد بالقمع في سورية ولبنان، وهو طغيان مقنّع بأيديولوجية القومية والاشتراكية. وما فكّر سورا كثيراً بالسجون على الرغم من أنّه مرَّ بها، بل وجد نموذجاً لذلك في مذبحة حماة عام 1982. وهو يقدّر الضحايا بعشرة آلاف، وفي الواقع كانوا أكثر من ثلاثين ألفاً. فأدوات الاحتيال والإخفاء بالقوميّة والتحرير والاشتراكية، والعلاقات بالدول العظمى والدول العربية، والآليّة: القتل والسجون الرهيبة.
أذكر، وهم الذين أضاعوا الجولان، أنّ الضبّاط كانوا يعيّروننا باعتبارنا سُنّة، تارةً بأنور السادات وطوراً بياسر عرفات. فأوهام الأكثرية المدينية بحقّها، بحسب النظام السوري السابق، في السلطة جعل المدن بيئات للكراهية والاحتقار والتخلّف، وأمّا الإخلاص والوطنية فهما لدى الريفيين الذين قدموا للمدن فاتحين.
ليس العلويون ذوي حساسيّة دينية عالية، وكانوا مستعدّين للمجاملة من أجل السلطة. لكنْ ما أزعج الدمشقيّين أكثر، على مدى ثلاثة عقودٍ وأكثر، هذا الزحف الإيراني، الذي بدا للسوريين السنّة كأنّما هو إحلالٌ لدينٍ محلَّ دينهم وعاداتهم وأعرافهم بأساليب قهريّة. تحالف حافظ الأسد، وهو النظام العلماني المزعوم، مع إيران الإسلامية ضدّ صدّام ثمّ ضدّ كلّ العرب.
صار كلّ ذلك مفضوحاً في عهد بشار (2000-2024) الذي اجتاح فيه الإيرانيون والشيعة العراقيون والميليشيات الأفغانية والباكستانية وجيش “الحزب”، ليس الوجه الديني التقليدي وحسب، بل بعد ثورة 2011، حيّ السيّدة زينب الذي صار مدينة كبرى. كما اجتاحوا بالتهجير والإحلال ريف دمشق والقلمون حتى حمص، واستولوا على المساكن والمزارع في حلب والبوكمال والميادين ودير الزور.
عجائب الانهيار
بلغ من استهتار الإيرانيين و”الحزب” بالعقول، عندما كانوا يجتاحون سورية لنصرة الأسد بعد الثورة، أن زعموا أنّهم آتون لحماية مزارات آل البيت من التكفيريين السنّة. والأطرف والأفظع مئات المزارات الوهمية التي اصطنعوها في حلب وفي الميادين والبوكمال وحمص وفي كلّ المناطق التي سيطروا فيها.
لقد أحدث الانهيار المفاجئ للنظام الأسديّ عجائب: زال الغطاء الإيراني عن كلّ سورية، كما زالت الأجهزة الأمنيّة كافّة، وانكشفت أهوال السجون وعجائبها، وصار ممكناً لأكثر من عشرة ملايين مهجَّر العودة إلى ديارهم. ولذلك انطلقت النشوة أو انبلجت، فغصَّت الساحات والمساجد بالجماهير التي غابت عنها بعد سنوات الثورة الأولى.
التداعيات كثيرة وكبيرة جدّاً. انكسرت شوكة الإيرانيين وزالوا. وخاف المتعصّبون والطائفيون بالعراق. والطريف أنّ بعض المثقّفين العرب بدأوا بالنواح على القومية والعلمانية وحرّيات المرأة. وانصرف بعض الأقلّويين يتحدّثون حديث المستشرقين بضرورة الحفاظ على حقوق الأقلّيات.
ستكون التداعيات كبيرةً في المشهدين الإقليمي والدولي، إذا نجحت الثورة الجديدة في الثبات والتقدّم وجمع أطياف وفئات الجمهور من حولها. والطريف أنّ أحمد الشرع يقول إنّ الثورة انتهت ولا بدّ من الانصراف لبناء الدولة. والمشكلات التي خلّفها نظام الخمسين عاماً ونيّفاً كثيرة ومعقّدة.
لذلك كان أهمّ ما كتبته في موقع “أساس” ضرورة الاحتضان العربي لسورية الجديدة لكي لا يحدث فراغ وينجح التغيير، والوعي لضرورة عدم الخوف من الإسلام، كأنّما صار ديننا مِلك الأصوليّين والقتلة والإرهابيين. لو رأى الخائفون من الإسلام حالة الشعب السوري البائسة، لما صدّقوا أنّ هؤلاء صبروا على أبي سليمان وسليمان هذه المدّة الطويلة جدّاً.
كأنّما تعوّدنا على حكم الأوليغارشية والطغيان، فتركنا لهم ديننا العظيم وموروثنا الحضاري والعمراني، وصرنا نحاسب على التقدّم والتأخّر بمقياس غطاء الرأس للمرأة باعتباره دليلاً على التخلّف والعنف ضدّ المرأة.
التّحرّر من الطّغيان
نعم هناك صحوةٌ للإسلام القتالي بدأت مع حماس وأفادت منها إيران، لكنّها خفتت قبل الحدث السوري بسبب الفشل والإبادات التي تعرّضت لها غزة، وتعرّض لها جنوب لبنان. وتحلُّ اليوم النشوة محلّ الصحوة، التحرّر من الطغيان، ومن الطائفية، ومن حكم العصابة، ونظام المخدّرات، ونشهد عودة الشعب السوري (وربّما اللبناني) لامتلاك حياته وحرّياته ومصائره.
تصوّروا أنّ الإيرانيين يقولون لنا إنّ الشعب السوري هو الذي يملك الإرادة والمصير. ماذا كنتم تفعلون في سورية يا ناس؟! وأين هي حرّيات الشعب الإيراني يا دعاة الحرّية في سورية؟! لو لم يكن من محاسن ما حدث إلّا زوال سيطرتكم على دمشق قلب الأمّة وعزّ العرب لكان كافياً.
مع النشوة تكثر الرمزيّات بعد طول قمعٍ وإنكارٍ وإخماد. لكنّها أسابيع، والمفروض أن يعود الناس لبناء حياتهم بعد نصف قرنٍ من الانتكاس والجمود. وأوّلاً وآخِراً: حذارِ الخوف من الإسلام، ومرحباً بالاحتضان العربي.
نحن أهل السنّة لكنّنا كنّا دائماً أهل الجماعة. لقد حدث لنا وعلينا الكثير والكبير وما رثيتم لحالنا ولا طالبتم بحقوقنا وحرّياتنا. والمطلوب منكم اليوم أيّها المثقّفون الأكابر أن لا تخافوا منّا، فالكثرة تبعث على الثقة والأمن، ولا تبعث على الخوف إلّا لدى من في قلبه وعقله مرضٌ مُزمن.
لقد جرّبنا القاعدة وداعشاً والإخوان المسلمين والأنظمة الأمنيّة، ولا نقبل العودة إلى أيٍّ منهم! فلنبق نحن العرب في سورية ولا نغادرها كما غادرنا العراق (وسورية أيضاً!) لكي لا يعود الإيرانيون ولا يستشرس الأتراك والإسرائيليون، وتنهض سورية بشعبها ولشعبها. ويا للعرب!