لو عادت الأيام إلى الوراء وتحديداً إلى حقبة الحرب السورية وبروز إسم أبو أحمد الجولاني كزعيم لـ”جبهة النصرة”، أحد فروع “القاعدة”، لما كان منطقياً أن يُطرح سؤال “ماذا بين القوات والجولاني؟”، أما اليوم فكل شيء تغيّر، وحتى الجولاني نفسه أصبح أحمد الشرع قائد الادارة السورية الجديدة بعد إطاحة نظام بشار الأسد البعثي، وتكفّله ببناء الهيكلية الجديدة للدولة السورية بدءاً من جمع كل مكوّنات المعارضة السورية ووضع دستور جديد ثم تنظيم انتخابات رئاسية حرّة ونزيهة تتيح للشعب السوري اختيار رئيسه بحريّة تامة.
انطلاقاً من هذه المعطيات، تنظر “القوات اللبنانية” إلى الوضع السوري الجديد بإيجابية من دون أن تحمّله الكثير من الأبعاد، بل تعتمد الواقعية والبرغماتية في تعاطيها مع التغيّرات السورية، وربما تفاجئ البعض بالمواقف الايجابية لـ”القوات” في ما يخص هذا الواقع الجديد، لكنها من الواضح أنها لا تتعاطى مع الجولاني زعيم “جبهة النصرة” إنما مع أحمد الشرع رئيس الادارة السورية الانتقالية الجديدة.
وليس سراً أن اتصالاً جرى بين الشرع ورئيس “القوات اللبنانية” سمير جعجع بعد مرور أسبوع واحد على تسلّمه السلطة في سوريا، للتهنئة باندحار نظام الأسد من دون أي اتفاق على لقاء مستقبلي أو ما شابه. تلى ذلك، كلمة نطق بها رئيس جهاز الاعلام والتواصل في “القوات اللبنانية” شارل جبور في إحدى المقابلات التلفزيونية معتبراً الشرع “رفيقاً”، وهذا ما أثار جدلاً كبيراً، ويبدو أن جبور لم يقل هذه الكلمة انطلاقاً من موقعه في “القوات” كمسؤول عن اعلامها، انما كمحلل سياسي يرى في مقاربته أن الشرع هو “رفيق” وخصوصاً أن قواسم مشتركة عديدة تجمع بين الشعبين السوري واللبناني في مواجهة نظام الأسد البعثي.
وربما يعتبر البعض أن ما قاله جبور مبالغ فيه، لكن واقعياً ما يجمع بين الشرع و”القوات” هو مواجهة نظام الأسد الطاغية، ويرى المسؤولون القواتيون أولاً أن أسهمهم في هذه المواجهة لا تقل عدداً عن أسهم الشرع، وخصوصاً أن عائلة الأسد مارست خلال 50 عاماً جريمة احتجاز الحرية عن الشعب اللبناني.
ثانياً، تتشارك “القوات” والشرع في مواجهة النظام الايراني وهو رأس الممانعة، ولا شك في أن الشرع صرّح منذ أقل من أسبوعين بأنه أعاد ايران 40 سنة إلى الوراء، وهذا ما يصبّ في مصلحة لبنان وكان يشكّل هاجساً لـ”القوات” التي شكّلت رأس حربة ضد هذ النظام في لبنان.
ثالثاً، يُجمع كثيرون على أن مواقف الشرع محترمة وتطمئن اللبنانيين فهو غالباً ما يُكرر أنه يحترم حرية الشعب السوري وحرية الشعب اللبناني مع المحافظة على سيادة الدولتين واستقلالهما، وهذا ما يتناقض مع مواقف النظام الأسدي الذي لم يعترف يوماً بدولة لبنان السيدة والمستقلة، بل كان يعتبر لبنان إحدى محافظات سوريا، ودأب على التدخل في الشؤون اللبنانية، ويبدو أن مواقف الشرع هي محط تقدير من “القوات”.
لكن “القوات” لا تحبّذ أن تتعاطى مع الشرع كحزب، وتعتبر أن الوضع السليم يكون من خلال تعاطي الدولة اللبنانية مع الدولة السورية على الصعيد الديبلوماسي، ولا بد من التعاطي مع الأمر الواقع، لأن المجتمع الدولي وفي مقدّمه الولايات المتحدة الأميركية تتعامل بجديّة مع الشرع حتى أنها أوقفت الجائزة التي وُضِعت لملاحقته، والوفود الديبلوماسية العربية تتقاطر إلى سوريا للقائه. لذلك تأخذ “القوات” كل هذه المعطيات في الاعتبار.
قد يتضمن تاريخ أحمد الشرع نقاطاً سوداً في إطار التطرف المذهبي الاسلامي، لكن “القوات” تدعو إلى عدم العيش في التاريخ، واطلالته الجديدة بعد إطاحة الأسد توحي برؤية جديدة بعيداً عن التطرف بل يظهر كمسؤول سياسي وحدوي، يسعى إلى المحافظة على كل الأقليات في سوريا، وترى “القوات” أنه في حال لم يذهب في علاقة لبنان وسوريا بالاتجاه الصحيح حينها سيكون لكل حادث حديث.
الآن ما فعله الشرع هو قطع طريق الإمداد بين ايران و”حزب الله” وهذا أمر جيّد، ورؤيته للمشروع الايراني الخطير تشابه رؤية “القوات”، وهذا يعني أن هناك ولادة جديدة لسوريا قد تكون متطوّرة وايجابية، وكل دول العالم تتعامل مع الشرع على هذا الأساس، ونظرة “القوات” اليه ليست بعيدة عن نظرة المجتمع الدولي الذي يريد الاستقرار لسوريا وأن لا تكون ممراً لتصدير المشكلات إلى لبنان.