المسيحيون في سوريا: عقلية "الملة" أم فضاء الدولة الرحب؟- بقلم الياس طعمه

  • شارك هذا الخبر
Thursday, January 2, 2025

لقد سُمي المسيحيون أيام السلطنة العثمانية بالملة. وتشير الكلمة اصطلاحاً إلى كل "الرعايا" غير المسلمة التي تعيش ضمن الإمبراطورية العثمانية المسلمة. إبان القرن التاسع عشر الميلادي صدر "نظام الملة" ضمن الإمبراطورية العثمانية وهو نظام يلحق كل شخص في المجتمع بديانته وبرئيس ملته الذي يرتبط مباشرة مع "ملة باشا" في القسطنطينية (اسطنبول اليوم).
وقد امتدح كثيرون هذا النظام الإداري، منهم الفيلسوف جو لوك في كتابه "رسالة في التسامح". طبعاً، لم يكن ليخفى على كثيرين أن باطنة هذا النظام هي سياسيةٌ واقتصاديةٌ بالدرجة الأولى، حيث كانت الكنيسة تجمع "الخوة" من رعاياها الذين تمثلهم طائفياً أمام السلطات مقابل بعض الميزات الخاصة أو "الحقوق" كمقايضة عن غيابهم عن كل مفاصل الحكم القضائية والتشريعية والسياسية.

بعيداً عن الإطالة، ربما كان نظام الملة في زمانه مقبولاً نوعاً ما ولكنه عامرٌ وزاخرٌ بالسلبيات. فهو يرى في المسيحيين، وغيرهم طبعاً، مجرد "رعايا" أو "جاليات" فيما هم سكان البلاد قبل كثيرين. كما أنه يعتمد على تصنيف الناس، على خلفية إسلامية شرعية، إلى نوعين مسلمين (درجة اولى) وغير مسلمين (درجة ثانية)، وأن لهم بعض "الحقوق" التي تمّن عليهم الإمبراطورية بها لأنهم في حمايتها. والمفارقة أنها ليس حتى حماية مجانية بل حماية مدفوعة من خلال الخوات والضرائب وغيرها.
لقد جلب لنا نظام الملة كوارث كثيرة، ربما أشهرها "طوشة النصارى" في دمشق 1860 م. لقد شعر المسيحيون بحجم الظلم الكبير من جراء تطبيق هذا النظام.
إن الأنظمة الإدارية والسياسية في عصرنا الحالي تجاوزت هذا النظام بكثير. يكفي أن تنظر إلى دول قائمة في تأسيسها على المهاجرين، مثل كندا وأميركا واستراليا، لترى كيف أن "نظام المواطنة" هو الأساس لبناء دولة قوية وحضارية تنعم بالرفاه والاستقرار.

لكن المؤسف أن "نظام الملة"، وإن صار من الماضي، إلا أن نظام البعث الفاسد طبق على المسيحيين نسخة معدّلة منه كمن يدس السم في العسل. فكانت الدولة الفاسدة تعطي بعض الميزات الخاصه للمسيحيين (قانون الاحوال الشخصية على سبيل المثال) وتتركه تحت سلطة وإدارة الكنيسة وتقوم باختيار بعض الشخصيات الفاسدة والمحسوبة على البعث لتضعهم في بعض مفاصل الدولة لتقول أنها دولة لا طائفية! وأذكر في هذا السياق حديثاً سمعته من البطريرك الراحل هزيم عندما قال له حافظ الأسد في لقاء خاص، أراد بكلامه هذا أن يشتري ضميره، لقد عيّنا في الحكومة الجديدة أربعة وزراء مسيحيين، فجاوبه البطريرك على عجل: "لولا أن أسماءهم مسيحية لما عرفناهم من الأساس"!
خلاصة القول، إن فكرة "الملّة" ساقطة لاهوتياً ووطنياً واجتماعياً الا أنها ما زالت تعشعش في عقول وأفكار المسيحيين. مازال المسيحيون حتى بعد تحرير سوريا من نظام الأسد الظالم يطالبون بحقوقهم! وكأن لهم حقوقاً خاصة يهمهم تأمينها ومن بعدي الطوفان. والانكى من هذا وذاك، أن تلك المسماة حقوقاً لا تتعدى "قرع أجراس الكنائس وإقامة الشعائر الدينية وأشجار الميلاد...". عجبي! كيف ينسى المسيحيون من هم؟ عجبي! كيف ينسى المسيحيون السوريون أنهم قدموا لسوريا نخبة المفكرين والسياسيين. إن كان أحد لا يعرف من نحن، فنحن نعرف من نكون! نعرف فرنسيس وماريا المراش وقسطاكي حمصي وميخائيل زريق والسقال وغيرهم ممن كانوا رواد تيار النهضة العربية. نعرف ميشيل كيلو ومي سكاف وغيرهم.
توقفوا أيها المسيحيون عن المطالبة بحقوق خاصة. الحقوق، كل الحقوق، تمنحها لكم الدولة العصرية الجديدة والحرة القائمة على المواطنة.

أيها المسيحيون أنتم في الكنيسة تصلون للمسيح وتعيشون الإنجيل لتخرجوا إلى المجتمع وتنخرطوا فيه وتصنعوا مستقبلكم بأيديكم. انتم لستم بحاجة إلى وكلاء عنكم، ولا انتم خرافاً بحاجة إلى راعٍ. انتم رعاة أنفسكم وقادتها في الحراك السياسي وفي المجتمع، لأنكم أحرار بالمسيح الذي تحملون فكره في عقولكم. إن الكنيسة تنتظر منكم أن تمثلوها وليس العكس. دور الكنيسة أن تساعدكم في وضع كلمات الانجيل على شفاهكم، وأفكاره في عقولكم لكي تستلهموا منه الحق و"الحق يحرركم" لتكون سوريا حرة بكم جميعاً.


المدن