وصيّة الخميني: النّظام… أهمّ من المهدي-بقلم محيي الدين الشحيمي

  • شارك هذا الخبر
Friday, October 25, 2024

بعد عام على معركة طوفان الأقصى، تحوّلت جبهة الإسناد والمشاغلة اللبنانية إلى حرب مواجهة مركزية. توغّلت قوات العدوّ في لبنان بفضلها من جديد. سقطت الساحات ووحدتها. أضحى لبنان وحيداً. لا يوجد من يسانده. لم تحافظ إيران على الطبيعة الجدلية القائمة. تصدّع ردعها. تركّز الآن على عدم خسارة المزيد. تعتبر الحفاظ على نظام الملالي قدس الأقداس. تقدِّم الحلفاء في سبيل المكتسبات الطَهرانيّة. فلا ضير في تحويل “صبرها الاستراتيجي” إلى “هروب استراتيجي” يحفظ رأسها ويحمي النظام الحالي “شاه الملالي” من خطر الحرب. لم تكن كلّ الزلّات لحظيّة. نتجت عن تراكم الأوهام والخيارات الخاطئة والمقارنات غير المتناسبة، فوُلدت الإخفاقات الملاليّة.

استوعبت أميركا نظام الملالي. قدّمت له الكثير على مدى العقدين الماضيين، عبر الإدارتين الديمقراطية والجمهورية. أضعفت له الشرعية العربية. أسقطت لمصلحته أنظمة. غيّبت كرمى له شخصيات مؤثّرة في المنطقة. قدّمت له صدّام حسين. وقبلت معه ببقاء بشار الأسد. احتلّت الأراضي مع سقوط بغداد في عام 2003. سمحت أميركا لإيران بالتسرّب الخبيث. فتحت أمامها باب المنطقة العربية على مصراعيه. ومهّدت لها أمر الإطباق على خمس عواصم عربية.


عطّلت أميركا لهذه الغاية بالتفاهم مع إيران مفاعيل التطبيق النظيف للقرارات الدولية في لبنان، وفي مقدَّمها 1701، منذ عام 2006. تشكّل حينها توازن سلبي وعرفيّ باطني بين النظام الإيراني والإدارة الأميركية الجمهورية أفاد في إبقاء لبنان منطقة خدمات مستباحة، واعتماده ورقة ضغط مشتركة وذات وجهين بينهما. أغدقت عليه المنح تواتراً في سبيل تمرير الإدارة “الديمقراطية الأوبامويّة” الكارهة للعرب ودولهم الاتفاق النووي، مفضّلةً الشراكة مع نظام الملالي على كلّ العرب.

استفاد الحزب وشرع في هندسة مجتمعه وبنيته الحاضنة. راكم بناء مفهوم كيانية الدويلة. ارتفع عنده معيار العدمية النهائية للفكرة اللبنانية. صقل إيمانه بكيانية الوليّ الفقيه. طوّر الأسلحة. زاد العُدّة وقوّته والعتاد اللوجستي، وشيّد ترسانته. درّب المزيد من المقاتلين وضمّهم إلى صفوفه.

أطبق على لبنان وسيطر على الجنوب اللبناني. خنق الدولة بالسلاح. فتّتها بقوى الأمر الواقع. منع السلطة الرسمية في لبنان من بسط السيطرة وممارسة صلاحيّاتها الحقيقية في الجنوب. التفّ على تطبيق القرارات الدولية. شاركه في ذلك وجود بعض القوى السياسية اللبنانية الفاسدة التي تحالفت مع السلاح للسيطرة على الدولة.

اغتنم الكيان الإسرائيلي هذا الواقع. كانت فرصة ثمينة له. لا يريد الكيان الإسرائيلي في الأصل تطبيق القرارات الدولية، وخاصة 1701. يبتغي الإجهاز عليها. هيّأ نفسه للحظة المواجهة. انتظرها 18 عاماً. وأتت كاملة على طبق الإسناد والإشغال. تلقّفها لأنّها لا تعوّض. وكيف لا وهو المتغوّل واللاهث وراء قضم الحدود؟ إنّه الطامع بتغيير الخرائط أيضاً.

ماذا أرادت إيران؟

أرادت إيران السيطرة التامّة على المنطقة العربية، من بوّابة الأذرع. طرحت نفسها بمفهوم جديد: “شاه الملالي”. تريد استعادة دور الشرطي. لكن لم تلاحظ المتغيّرات الأممية، بدءاً من النهضة العربية الشاملة. لم تتيقّن من ولادة قطب ثالث عربي براغماتي وعاقل في المنهجية السياسية العالمية. لم تقرأ مآلات الحيل الإسرائيلية والمتغيّرات الأميركية الآخذة في الانحدار، فشعرت بالخطر.

لا ترغب إيران في إضاعة مناعة نظامها الداخلي. تريد حمايته وإعادة تماسكه تحت ظلال المرشد الوليّ الفقيه. لا تريد الانغماس كليّاً في الحرب الشاملة. تكتفي بحرب الوكلاء غير المباشرة. تعمل على تنجية نفسها من مواجهة محتملة مع إسرائيل، بعد تآكل قيمة ردعها الإقليمي.

إخفاق استراتيجيّ

أخفقت إيران في الصبر الاستراتيجي والسلوكيات التكتيكية. لن تدرك حقيقة الرؤية المستقبلية “الصهيو-أميركية” بعد الطوفان. تلخّصت رؤيتها، على مدى السنين، في تربية وتنمية فيالقها التوسّعية. تلعب بهم وتستعملهم. تغيّر في إطارهم وأطوارهم وأدوارهم. أنشأت إمبراطوريتها الثورية في المنطقة العربية وصرفت عليها الأموال. خصّصت لها الموازنات وصقلتها بطريقة الأذرع الأخطبوطيّة. استعملتهم في حصار وشرخ المنطقة العربية وإقصاء شرعية الدول فيها. هدفت إلى تنفيذ أيديولوجية الوليّ الفقيه للدفاع عن أمنها. تستعمل أذرعها كغلاف حيوي ضامن للجمهورية الإسلامية. فلا بأس من عمليات المراوغة ما بقي نظامها وتحصّنت جغرافيّتها الخالصة المجرّدة.

تصدّع الرّدع

فشل الصبر وأمست استراتيجيتها باهتة، سيما بعد تطبيق الكيان الإسرائيلي خطّة “هتك الثوابت التكتيّة الإيرانية”. من خلال سلسلة الاستهدافات المستمرّة، برزت سقوف عالية من الخروقات الأمنيّة والتكنولوجية، مع سقوط عناصر وقياديّي ورموز ولاية الفقيه في المنطقة العربية. كان الضوء الأخضر عبر استهداف قائد فيلق القدس قاسم سليماني، ذراعها الطويلة في الخارج، ووصل إلى ذروته مع اغتيال الأمين العام للحزب وبعده يحيى السنوار قائد حماس. استفحلت إسرائيل نتيجة رخاوة الردّ الإيراني. اعتبرتها فرصة سانحة فزادت الضغط.

لم يكن ردّ إيران أكثر من “مسرحية ملاليّة”، نصّها فارسي ومخرجها أميركي. مسرحها وفضاؤها فلسطين المحتلّة. تصدّع الردع، وفتحت فيها نطاق حرّية التصرّف في الأذرع. تريد اكتساب النفوذ والحصّة النووية المرجوّة.

شجّع هذا النموذج العدوّ الإسرائيلي على الاشتداد أكثر. وزاد من طمعه. فهو لم يعد يقبل بصبر إيران الاستراتيجي. استغلّ تكتيكها. ولن يقبل بقواعد الحزب وجبهته الإسنادية والإشغالية. انتظر اللحظة المناسبة واستدار إلى لبنان وفعل فعلته.

النّظام أهمّ من الإمام

أطلق مؤسّس الثورة الإيرانية، المرشد الراحل الخميني، شعار الحفاظ على النظام الإيراني بعد ثورة عام 1979، وقال في إحدى خطبه إنّ “الحفاظ على النظام الإسلامي الإيراني من أوجب الواجبات، وهو أهمّ من الحفاظ على حياة الإمام المهدي”.

ورغم أنّه قالها ردّاً على سؤال افتراضي، وقصد أنّ ذلك لن يحصل لأنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي التي ستمهّد لظهوره، فإنّ ذلك يعني أنّ بقاء النظام الإيراني هو أهمّ من كلّ شيء وحتى “فلسطين” وكلّ الدول العربية.

يؤسّس الخميني الأولويّة عبر الحفاظ على اللبنة الأولى من أمانة الوليّ الفقيه وحمايتها. يتحقّق ذلك عبر حماية الكتلة الإيرانية الداخلية وجاهزيّتها عند ظهوره.

بعد الحرب على لبنان تحوّل شعار “الصبر الاستراتيجي” الإيراني إلى “الهروب الاستراتيجي” إلى الأمام. ضمّنته بكلّ أنانيّة واستعلاء نظريّة التجارب والتحارب بالدم العربي، تحصيناً للنظام، وفي سبيل ترسيخ حيثيّته، حتى بنكهة التراجع التكتيكي والحوار مع العدوّ. هذا هو جوهر الرؤية الإيرانية، التي تستعمل كلّ أوراق أذرعها وحلفائها. تضحّي بالجميع بغية الحفاظ على استقلالها واستقرار جغرافيتها، وحماية المناعة الإيرانية الخالصة. ويبقى لبنان الضحيّة حتى اشعار آخر…


أساس ميديا