فرضت الحرب الإسرائيلية على غزّة ولبنان وقائع جديدة تقتضي التفكير في الخلاص من الميليشيات المنفلتة ومن التدخّلات الخارجية. فالمشكلة لا تنحصر بالطغيان الإسرائيلي، بل لا بدّ من العمل على الخلاص من الميليشيات المسلَّحة، ومن التدخّلات الخارجية الصانعة أو المساندة لهذه الميليشيات. هناك دور عربي مطلوب لإقامة الدولة الفلسطينية، واستعادة الدولة في عدّة أقطار عربية من الميليشيات واستعادة الوحدة والتضامن والاستقلال. المأساة كبيرة، لكنْ من الممكن بالجهد والالتزام تحويل المآزق إلى فُرَص.
كنتُ أعتبر الحرب الأهلية اللبنانية أصعب الحروب، ثمّ وجدت أنّ حرب إسرائيل على لبنان عام 1982 أصعب منها. ثمّ دخلنا في “السلام السوري” الذي استنفد كلّ عهود الحروب. ثمّ دخلنا حتى حرب غزة في الاضطراب الإيراني الذي شمل المنطقة كلَّها.
وكما كنّا نعتبر “السلام السوري” مؤامرةً أميركية، صرنا نعتبر الاضطراب الإيراني مؤامرةً أميركيةً أيضاً(!)، وها هي حرب غزة أو الحرب عليها ذروة الملاحم إلى أن كانت مشهدية اغتيال الأمين العامّ للحزب التي أنْست كلَّ ما عداها. سمّيتُ في أحد مقالاتي بموقع “أساس” مشهد نصرالله بأنّه يومٌ طويلٌ في حياةٍ قصيرة، وهو في الحقيقة يومٌ بألف يومٍ وأكثر!
الإدراكات الذاتية أو الشخصية تأتي وتذهب، لكنّ المذابح الجماعية والخراب الجماعي هي الأمور الباقية، سواء أطالت الأعمار أم قصُرت.
سقوط أوهام “التّوازن“
مضى عامٌ على الحرب على غزة، وما شبع الجيش الإسرائيلي من القتل والتخريب. وتبدأ مرحلةٌ جديدةٌ من الحرب على لبنان. “محور المقاومة” يعتبر صموده انتصاراً، وأمّا المدنيون في غزة ولبنان فلا حساب لهم، إذ لا يشملهم الصمود ولا الانتصار، فأين نحن الآن؟
1- سقط أوّل ما سقط: “توازُنُ الرعب” الذي كانت حماس وكان نصرالله يبنون شهرتهم وحساباتهم عليه. وصار الفلسطينيون والحزب والإيرانيون مكشوفين أمام الجبروت الإسرائيلي – الأميركي. فأين هي القضية الفلسطينية اليوم؟ هناك في العالم وعند العرب مَنْ يبني على مذبحة غزة مسألة قيام الدولة الفلسطينية المستقلّة. وإسرائيل المنتصرة لا تريدها. ونحن نعزّي أنفسنا بأنّ هناك ما يزيد على سبعة ملايين فلسطيني بلا دولة ولا مصير كبقيّة البشر. لكنْ هناك من يقول إنّ افتقاد الدولة مضى عليه قرابة ثمانين عاماً وما افتقدها العالم، وما يزال خائفاً على إسرائيل منها ولا يعروهُ همٌّ من وراء ضياع الفلسطينيين وسط المذابح. يستطيع الحماسيّون القول إنّهم من أجل الخروج من الضياع شنّوا هجوم طوفان الأقصى: فهل تثمر المذبحة هذه المرّة قيام الدولة، أي المذبحة في مقابل الدولة؟ الإسرائيليون يرون العكس، أي أنّهم ما ارتكبوا المذبحة إلا للخروج النهائي من مشروع الدولة أو حُلمها! هو رِهانٌ إسرائيلي، فهل ترتقي آمال الفلسطينيين والعرب إلى منزلة الرهان المقابل؟
سقوط “الخطاب” أيضاً
2- وكما سبق، ما سقطت مقولة “توازن الرعب” في غزة فقط، بل سقطت بالدرجة الأولى مع الحزب في مواجهة إسرائيل. لا يستطيع الحزب ولا الإيرانيون الاعتراف بسقوط المقولة. وقد قالها المرشد الإيراني بصراحة في تأبين نصرالله من طهران. من هو صاحبُ المشروع، الإيرانيون أم نصرالله؟ نصرالله هو صاحب الخطاب، لكنّ الخطاب نفسه الذي يحمل المشروع من وحي إيران وعملها على مدى أربعة عقود. فما الذي يبقى للبنان من وراء انكسار الخطاب؟ يتعزّى فريقٌ من اللبنانيين بأنّ لبنان على كثرة الأزمات والحروب والاستيلاءات ما أمكن افتراسه. لكن كيف سيهضم الشيعة اللبنانيون والشيعة العرب ما نزل بهم وما يزال ينزل؟
كلّ يوم يزداد اقتناع اللبنانيين بأن لا مخرج إلّا بالدولة الواحدة للشعب الواحد. لكن أين هي النخبة السياسية التي تحمل هذا الاقتناع وتعمل عليه كما تعمل النُخَب الوطنية والقومية في العالَم في أزمنة الأزمات. علينا أن لا ننسى أنّه في الأزمات السابقة الداخلية والخارجية كان العرب حاضرين في إعادة الإعمار وفي السياسة قبل الإعمار وبعده. أمّا اليوم فما يزالون غائبين يأساً وليس عجزاً. ماذا نفعل نحن الأربعة أو الخمسة ملايين وسط المأساة المزدوجة أو المركّبة: الافتقار إلى النخبة، والافتقار إلى العرب، والهُوام الإقليمي والدولي؟
أظنّ أنّ الزعيم المصري مصطفى كامل هو القائل: “لا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة”. فالأمل الذي لا شفاء منه أن تصحَّ مقولة مصطفى كامل في حالتنا نحن كما صحّت في حالة مصر!
تراجع أدوار الميليشيات
3- المأزق الذي شمل فلسطين ولبنان دخلت فيه وعليه إيران منذ البداية. فقد عمل الإيرانيون على إنشاء ميليشيات مسلَّحة في سائر الأقطار ذات الحكومات الضعيفة. وكانت تعتبرهم أدوات لمدّ النفوذ والسيطرة دون أن تتورّط بنفسها. لكنّ إسرائيل اضطرّتها إلى دخول المواجهة بشكلٍ مباشر. فماذا سيحصل؟ لن تتخلّى إيران علناً عن منافذ النفوذ هذه، لكنّها لن تُغامر أكثر من ذلك. وستخفّ موازينها الاستراتيجية في المنطقة والعالم بسبب العجز عن مواجهة إسرائيل. لكنّها دولةٌ كبرى وذات تاريخ عريقٍ وممتدّ، وسيكلّفها الانسحاب كثيراً لكنّه لن يهدّد وجودها. فهل تستطيع مراجعة سياسات التوسّع والاستيلاء لكي لا يتهدّد النظام؟ صارت الميليشيات سبباً ثانياً للصراع مع إيران والسبب الأوّل هو النووي: فما هي حدود القدرة على المساومة؟ إذاً تقع إيران اليوم بين الهيبة والغيبة، فهل بينهما توسّط؟
ماذا سيفعل اليهود؟
4- إلى أين ستصير إسرائيل؟ اليهود إذا خسروا معركةً أقلقوا العالم كلّه خوفَ الإبادة، وإذا انتصروا في معركة فإنّهم يلجأون لمحاولة إبادة الخصم المهزوم: ماذا سيفعلون الآن، وبخاصةٍ أنّ أميركا والعالم الغربي كلّه معهم؟ فاليهود هم سرّة العالم الغربي وعقدته وليس بوسعهم التخلّي أو الإهمال. ليس من مصلحة إسرائيل إزالة الدولة السورية أو الدولة اللبنانية. لكن ما حصل بعد انتصار عام 1967 قد يحصل مرّةً أخرى مع قوى اليمين المسيطرة في الكيان. ما كانوا أذكياء سابقاً في استثمار انتصاراتهم: فهل يدفعهم الأميركيون هذه المرّة باتجاه تسوية محتملةٍ مع الفلسطينيين أم يستمرّ الاضطراب، وتظلّ ملايين الفلسطينيين حاضرةً في الشارع على الرغم من القمع والقتل والحصار؟
دور العرب والخليج
5- هناك أخيراً دولنا نحن العرب. فقد دفعت التطوّرات في سبعينيات القرن الماضي التي أدّت لخروج مصر من جبهة المواجهة مع إسرائيل، إلى خروج الدول العربية تدريجياً حرصاً على أمنها واستمرارها. بيد أنّ الخروج من الجبهة لا يعني التخلّي عن القضية الفلسطينية، لكن حلّت الميليشيات وحلّت إيران محلَّ العرب ورفعت الراية. العالم كلّه يريد من العرب اليوم أن يقوموا بالدور الذي لن يقوم به غيرهم في إقامة الدولة الفلسطينية وفي استعادة وحدة واستقرار الدول التي شرذمتها إيران ونشرت فيها ميليشياتها. تستطيع دول الخليج ومصر العمل معاً على تجديد تجربة الدولة الوطنية التي تصدّعت تحت وطأة إيران وإسرائيل وتركيا. سيظلّ الاستقرار العربي مهدَّداً بدون كيانٍ سياسي للفلسطينيين، وبدون تعاونٍ بين العرب ومع العالم لاستعادة أمن واستقرار ووحدة سورية والعراق ولبنان وليبيا واليمن والسودان. في زمن الأقطار القومية كان يقال إنّه لا نهوض ولا سلام بدون الوحدة، والصحيح اليوم أنّه لا أمْن ولا استقرار بدون دولٍ وطنيةٍ عربيةٍ قويّة لا تعاني من الاضطراب الداخلي ولا من التدخّلات الخارجية. لا بدّ من الخلاص من ثقافة الميليشيات والعودة إلى ثقافة الدولة.
لقد مضى عامٌ في الحرب على غزة ولبنان والضفة الغربية التي تناول شواظها سورية والأردن واليمن والعراق، وقد طالت حتى صارت كأنّما هي حرب المئة عام… فهل إلى خروج ٍ من سبيل؟!