جنبلاط يقبض على اللّحظة الإقليميّة - بقلم وليد شقير

  • شارك هذا الخبر
Saturday, December 21, 2024

كان الرئيس السابق لـ”الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في طليعة من قاربوا بالتعليقات الرمزية وبالمواقف، وبالخطوات العملية، مفاعيل الزلزال السوري على لبنان.

يتميّز جنبلاط بسرعة المبادرة حين يلتقط اللحظة الإقليمية الدولية. يزور غداً دمشق للقاء قائد إدارة العمليات المشتركة أحمد الشرع. ولا يمكن فصل إعلان كتلة “اللقاء الديمقراطي” دعمها ترشيح قائد الجيش العماد جوزف عون للرئاسة عن التقاطه تلك اللحظة.

الحدثان متداخلان، بعدما انعقدت اللحظة على قيام حكم في سوريا يقفل الباب على تمرير إيران السلاح لـ”الحزب”، وإعادة تكوين سلطة لبنانية تفرض سيادتها. وهذا يحتاج إلى رئيس ينفّذ القرار 1701 شرطاً لمساعدة لبنان على النهوض.

الثّأر لكمال جنبلاط والحريري

منذ بدأت حملة “هيئة تحرير الشام” والفصائل العسكرية من ريف إدلب إلى حلب، في 27 تشرين الثاني الماضي، توقّع جنبلاط أن تصل إلى دمشق. لم تمضِ ساعات على فرار بشّار حتى حيّا الشعب السوري “بعد طول انتظار”. ألحق ذلك باتّصال مع زعيم تيار “المستقبل” سعد الحريري ليؤكّد أنّ “عدالة السماء تحقّقت” للرئيس الراحل رفيق الحريري، وجاءه ردّ الحريري بالترحّم على “المعلّم كمال جنبلاط”.

حين اتّصل الزعيم الاشتراكي بأحمد الشرع بعد أقلّ من أسبوع على سقوط النظام مهنّئاً، لم يفُت الثاني أن يذكّر بأنّ كمال جنبلاط كان ضحيّة نظام الأسد.

لطالما تبادل قادة دمشق وبيروت الاهتمام بطبيعة الحكم في كلّ منهما على مرّ التاريخ. ولزيارة جنبلاط لعاصمة الأمويين حوافز جوهرية تتعدّى الرمزية:

تاريخ العلاقة… والمحادثة الأخيرة:

للعلاقة بين الزعامة الجنبلاطية وآل الأسد تراكماتها التاريخية منذ اغتيال جنبلاط الأب، الذي وصف حكم حافظ بـ”السجن الكبير”. فجنبلاط الإبن صاحب الاستعارة الشهيرة ومفادها أنّه ينتظر على حافة النهر مرور جنازة أعدائه، هادن النظام حيناً، عملاً بغريزة البقاء، ولحماية طائفته في لبنان وجبل العرب حيث للزعامة الجنبلاطية كلمة مسموعة، وعانده أحياناً أخرى.

المحادثة الأخيرة بين جنبلاط وبشار كانت صادمة للأوّل. بعد بضعة أسابيع على انطلاق الاحتجاجات الشعبية ضدّ الأسد، في 15 آذار 2015 (إثر المصالحة بينهما)، طلب جنبلاط الأمان للتكلّم بصراحة، فدعاه إلى تجنّب إزهاق الأرواح والدماء. كانت صور جثّة الطفل حمزة الخطيب الذي اعتقله الأمن السوري مع فتية آخرين في درعا انتشرت وتبدو فيها آثار التعذيب على جسده الطريّ. مسؤول الأمن، الذي اتُّهِم بقتله وبقلع أظافر الأطفال، هو العقيد عاطف نجيب ابن خالة الأسد. سأله جنبلاط: ألا يمكن أن تعاقبه على ما فعله؟ فأجابه بشار: “لم يتقدّم أحد بشكوى ضدّه”. في تلك الجلسة سأله جنبلاط: “من هو حاكم سوريا إذاً؟”. خرج من الاجتماع فاقداً للأمل من بشار.

إثر دفع الأمن السوري الثوّار إلى عسكرة الاحتجاجات وانشقاق كثر عن الجيش ردّاً على القمع، أيّدهم جنبلاط. عارض تعاون الأجهزة اللبنانية مع “شقيقتها” السورية لملاحقة معارضين لجؤوا إلى لبنان. دعم “رجال الكرامة” الذين وقفوا ضدّ النظام في محافظة السويداء، وجلّها من الدروز، وسعى إلى توفير غطاء إقليمي لهم.

البعد الدّرزيّ واستجابة الشّرع:

سبق لجنبلاط أن تواصل عبر المسؤولين الأتراك مع الشرع، حين كانت كنيته أبا محمد الجولاني، وكان زعيماً لـ”جبهة النصرة”، قبل تغيير اسمها. الهدف تدارك تفاعلات مقتل عدد من الدروز في منطقة جبل السماق وقرية قلب لوزة في محافظة إدلب، على يد مناصري “النصرة” عام 2015. هُجِّر حينها بعض الدروز.
ساعد على تخفيف شظف العيش على دروز السويداء جرّاء حصار قوّات النظام، بعدما أجمع مشايخ العقل، بتشجيع منه، على امتناع شباب الطائفة عن تطبيق التجنيد الإجباري في الجيش، تجنّباً لقتال “إخوتنا السنّة” في درعا المنتفضين على الأسد. فاق عدد هؤلاء 40 ألفاً. ساند انتفاضة السويداء التي تواصلت سنة و4 أشهر حتى 8 كانون الأوّل الجاري.

مع هجوم قوّات المعارضة على حلب وصولاً إلى دمشق توجّس جنبلاط من الاختراقات الإسرائيلية عبر بعض دروز فلسطين. وحين دعا أحد وجهاء قرية الحضر التي احتلّتها إسرائيل إلى ضمّها للدولة العبريّة، سارعت الهيئة الروحية إلى التبرّؤ منه، فدعا إلى إحباط مشروع إسرائيلي لتقسيم سوريا بإغراء الدروز بدولة خاصّة بهم. نصح بالانفتاح على حكّام دمشق الجدد، إزاء مخاوف البعض من الإسلاميين المتشدّدين، فزار وفد من السويداء “إدارة العمليات العسكرية” مطلع الأسبوع. استجاب أحمد الشرع بسرعة فأرسل وفداً وزاريّاً من حكومة محمد البشير إلى السويداء للاطّلاع على حاجاتها من الخدمات…اهتمّ جنبلاط بانسياب العلاقة الدرزية مع البحر السنّي السوري، في لحظة التحوّل التاريخي، بغياب القيادات التاريخية في جبل الدروز. رعى وشيخ عقل الطائفة في لبنان سامي أبو المنى اجتماعاً في بيروت للمجلس المذهبي الدرزي وسياسيّي الطائفة، وأعلن أنّ كمال جنبلاط والشعب السوري انتصرا. ثمّ زار وفد من مشايخ دروز لبنان السويداء أمس دعماً لتوجّهات جنبلاط وأبي المنى.

خريطة طريق لعلاقة الدّولتين:

يسجّل مراقبون أنّ مصدر تحرّك جنبلاط القناعة العميقة بأنّ استقرار سوريا أساسيّ للبنان. واللحظة تلخّص خروجه وسوريا من هيمنة إيران. ولا بدّ من تنظيم العلاقة بعد التحوّل الكبير، لإخراجها من موروثاتها السلبية جرّاء وصاية آل الأسد على البلد منذ سبعينيات القرن الماضي. يحمل وفده نصّ مذكّرة أعدّها خبراء حزبه في العلاقة الثنائية بين “بلدين سياديّين مستقلّين”، كما قال قبل 3 أيّام. وهي تتناول “كلّ شيء”، كما أوضح محيطه لـ”أساس”، وتشكّل خريطة طريق، بدءاً من المعتقلين والمخفيّين في السجون إلى ترسيم الحدود في مزارع شبعا وكفرشوبا وضبطها وإعادة النظر في “معاهدة التعاون والأخوّة” (1991)، وتأكيد دور السفارتين، والتجارب السابقة… وصولاً إلى أفكار بشأن دستور سوريا ووحدتها.

يعتبر مراقبون أنّ جنبلاط يستبق أيّ احتمال لسلوك بعض الحكّام الجدد مستقبلاً ممارسات شبيهة بتلك التي مارسها النظام المخلوع، بقدر الحرص على تعافي سوريا.

القائد للرّئاسة و”جاروفة” القرار الدّوليّ

ليس بعيداً عن سياق التقاط جنبلاط لحظة التحوّلات الإقليمية-الدولية، مسارعة كتلة “اللقاء الديمقراطي” لدعم ترشيح جوزف عون للرئاسة. شعر جنبلاط أنّ القوى السياسية الفاعلة تتعاطى مع تحديد رئيس البرلمان نبيه بري 9 كانون الثاني موعداً لانتخاب رئيس الجمهورية، كأنّ ما سبقها لم يكن. أي أنّ هذه القوى تتمهّل بالاتفاق على رئيس، كأنّ لبنان لم يخضع لحرب مدمّرة قصمت ظهره، ولم يوافق على اتفاق لوقف النار ينهي حقبة من الدور الإيراني، وكأنّه لا قرار غربياً بإنهاء دور الميليشيات الخارجة عن الدولة (NON STATE ACTORS) في المنطقة كلّها يشمل “الحزب”.

يعتبر محيط جنبلاط أنّ هناك “جاروفة” دولية فوّضت إسرائيل بالمهمّة، ومن لا يقارب الأمر وفق ذلك يجرفه السيل. وترشيح قائد الجيش في لبنان لأنّ تنفيذ اتفاق وقف النار الموقّع في 27 تشرين الأوّل هو حجر الزاوية في مواكبة التحوّلات.

هويّة الرّئيس شرط إعادة الإعمار؟

منذ تحديد جلسة الانتخاب بقيت الكتل النيابية غارقة في بحث “المواصفات”. بعضها في المعارضة خياره الضمني جوزف عون، لكنّه يترقّب موقف “الثنائي الشيعي” الذي يمرّر أسماءً بعضها رماديّ لا يناسب حراجة الموقف حيال “الجاروفة” الدولية.

يمكن تصنيف عوامل دعم جنبلاط لعون وفق تسلسل أحداث ووقائع كثيرة، يمكن ذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر:

جنبلاط قام بالخطوة بعد أسبوع على اجتماعه غير المعلن رسمياً ونجله تيمور مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حيث تناول البحث أوضاع سوريا ولبنان والرئاسة فيه. مع التكتّم على هذا الاجتماع، هناك شبه إجماع في الأوساط السياسية على أنّ قائد الجيش يحظى بدعم أميركا، وعدم ممانعة فرنسا ومصر وقطر والسعودية.

أولويّة الدول المعنية بتنفيذ اتفاق وقف النار والقرار 1701 مصادرة الجيش سلاح “الحزب” جنوب الليطاني ثمّ في سائر لبنان، وإقفال الحدود على تهريب السلاح. وإذا كان الأمر منوطاً بالجيش، فإنّ ضمان إزالة العقبات السياسية يفرض تسليح المؤسّسة العسكرية بالقرار السياسي عبر تولّي عون السدّة الرئاسية.

لا أثمان لخيار جوزف عون؟

مساعدة لبنان الدولية العربية على إعادة إعمار ما هدّمته إسرائيل، التي هي أولوية للرئيس بري، مشروطة بتنفيذ الاتفاق، مع إعادة بناء الدولة وإدخال دم جديد فيها.

تولّي الزعامة الجنبلاطية الترشيح يجنّب سائر القوى المؤيّدة لعون حديث أيّ مقايضة حول الثمن الذي يطلبه “الثنائي الشيعي” مقابل موافقته عليه. فالرئيس برّي طرح عقبة التعديل الدستوري أمام رئاسة عون، حين فاتحه جنبلاط بخياره.

يحتاج تحقيق ظروف إنجاح القائد الخاضع للتجاذب إلى حديث آخر، لكنّه يتطلّب بالدرجة الأولى تحرّكاً منه باتّجاه الكتل النيابية.