وسط تصاعد الحرب وما يرافقها من ضغط اجتماعي واقتصادي قي بلد يقترب حثيثاً من "الانهيار الكارثي"، وفق تقرير للإسكوا، تواصل الكنيسة المارونية التمسك بلبنان "الفكرة والدور المفترض"، كما تتمسك بانحيازها للأضعف والأفقر والمتألم. وإذا كان هذا الانحياز من صلب إيمانها، إلاّ أن الكنيسة هي أيضاً إبنة بيئتها. تلك البيئة التي، على اختلاف خياراتها السياسية وتنوعها، لم ترَ داعٍ لدخول لبنان في الحرب. فتراجُع الواقع الاقتصادي وزيادة الهجرة في الأوساط المسيحية، والإحساس بفقدان الدور والتأثير السياسي -وعدم انتخاب رئيس للجمهورية مثال قائم- جعل أولويات المسيحيين في مكان آخر.
ومع ذلك، وعلى رغم ازدياد التململ في هذه البيئة، تصر الكنيسة على تطبيق قناعاتها وقيمها، "حرصاً منا على أنفسنا بالمعنى الأخلاقي والإيماني أولاً"، وفق أحد مطارنة الانتشار. وكان مجلس المطارنة في بيانه الأخير شديد الوضوح حين أكّد أن "الكنيسة تقف إلى جانب شعبها الجريح وخصوصًا المهجّرين من خلال أبرشيّاتها ورهبانيّاتها ومؤسّساتها، وخصوصًا من خلال كاريتاس لبنان، التي هي ذراع الكنيسة في خدمة المحبّة". محييّاً "المواقف الشعبية العفوية الصادقة والمُحِبّة، التي قام بها أبناء المناطق الخارجة عن مسرح الأحداث، باستقبال أهلها النازحين بعيدًا عن آلة الموت".
موقف الكنيسة الإنساني لا ينسحب بالضرورة على موقفها السياسي، لكنه ينعكس على خلق مناخ وطني مطلوب.
تعميم الرهبانية المارونية في هذا السياق، حصلت "المدن" على تعميم داخلي أصدره رئيس عام الرهبانية اللبنانية المارونية، الأباتي هادي محفوظ، يتوجه فيه إلى رهبان "الكسليك" حول التعاطي مع الأزمة الإنسانية الراهنة.
يستحق التعميم الإضاءة عليه، ليس فقط لوضوح انحيازه للناس انطلاقاً من تعاليم الكنيسة وخياراتها، إنما كون الرهبانية، إلى جانب بكركي وخلفها، تمثل أعمق ما في الوجدان المسيحي اللبناني. وهي اليوم، تعمل كما بكركي ومجلس المطارنة، إلى الوقوف إلى جانب كل اللبنانيين.
وإذا كانت جامعة الروح القدس تؤرشف تاريخ لبنان ووثائقه وتبحث عنها في العالم، فإن هذا التعميم، أسلوباً ومضموناً، مما يستحق أن يؤرشف. وقد جاء فيه:
"تشتدّ الأزمة على وطننا الحبيب لبنان، ويلفّ الغموضُ واقعَ مجتمعِنا ويتآكل القلقُ الكثيرينَ من اللبنانيّين. فنجد أنفسَنا، نحنُ رهبانَ الرهبانيّةِ اللبنانيّة المارونيّة، مرّة جديدة، على موعد مع موقفٍ نَبَويٍّ نستلهِمه من الكتاب المقدّس، من تعليم كنيستنا، من قوانيننا، ممّا صُقِلنا عليه من روحانيّة، ومن تاريخنا المسطّر بمواقف الرهبانيّة بالقرب من شعبها".
يضيف، "ونحن في أزماتِنا، نهتدي ونَهدي الآخَرينَ بتعليم الكنيسة، من أجل الخير. وها قداسة البابا فرنسيس قد علّم، منذ ثلاثة أيّام، ما يُفيدنا نحنُ بشكلٍ خاصّ. هو علّم في كلمته إلى الاكليروس والمكرّسين والمكرّسات في بلجيكا، السبت الفائت، في 28 أيلول 2024: "الأزمة -أيّة أزمة- هي وقت أُعطي لنا لكي ننتفِض ونتساءل ونتغيّر. إنّها فرصة ثمينة -وفي لغَةِ الكتاب المقدّس تسمّى كايروس (kairòs) اللحظة المناسبة-، كما حدث مع إبراهيم وموسى والأنبياء. في الواقع، عندما نجد من حولنا الدّمار، يجب علينا أن نسأل أنفسَنا دائمًا: ما هي الرّسالةُ الّتي يريد الرّبّ يسوع أن يوصِّلَها إلينا؟ وماذا تُظهِر لنا الأزمة؟". وبعد يومٍ، نهار الأحد، في 29 أيلول 2024، عند التبشير الملائكيّ بعد نهاية القداس الِاحتفالي الختاميّ في رحلةِ قداستِه إلى بلجيكا، أظهر قُربَ قَلبِه وفكرِه وصلاتِه إلينا، إذ قال: "ما زِلتُ أتابع بألمٍ وقلقٍ شديد ٱتّساعَ الصّراعِ في لبنانَ وٱحتدامَهُ. لبنان رسالة، لكنّه في الوقت الحاليّ رسالة معذّبة، وهذه الحرب لها آثارٌ مدمّرة على السّكان: فالكثيرُ من النّاس ما زالوا يموتون يومًا بعد يوم في الشّرق الأوسط. لنُصَلِّ من أجلِ الضّحايا، ومن أجلِ عائلاتِهم، وَلْنُصَلِّ مِن أجل السّلام".
ويتابع، "تَحدو بنا دروس قوانينِنا وروحانيّتِنا وتاريخِ رهبانيّتنا، القديمِ والحديث، إلى محبّة المحتاجينَ من شعبنا، وإلى مواقفَ حسّيّة تجاههم. نحن نفكّر بكلّ متألّم في وطننِا، ونريد أن نُظهِرَ فضيلةَ التضامُنِ والِاستقبالِ والمساعدةِ إلى كلّ إنسان، من دون أيّ تمييز. في الوقت عينه، مع فضيلة التَضامُنِ والِاستقبال والمساعدة نريد التَحلِّيَ بفطنَةِ التصرّف، وَفقَ كلِّ ظرفٍ ووفق كُلِّ إمكانيّة، والتحلّي بفطنةِ إدارةِ المساعدات، ونريد التذكّر أنّ كلاًّ منّا، وكلَّ دير وكلَّ مركز وكلَّ مؤسسّة، إنّما ينتمي الى الرهبانيّة الأمّ. من هنا، ضرورة التنسيقِ مع الرئاسةِ العامّةِ في قضيّةِ المساعدات، خُصوصًا في هذه الأزمة الخانقة".
ويقول التعميم: "نحن نفكّر بالّذين تَركوا منازلَهم وقراهم ومناطقهم، خصوصًا الّذين لجأوا إلى مراكز إيواء، وليست ذكريات التهجير بعيدةً عن الكثيرين منّا. ونحن نفكّر أيضًا بمن هم على تماسٍّ معنا، منذ زمن، في اليوميّات، أي جيران الدير، والموظّفين والأساتذة والإداريّين وكلّ الأفرقاء المعنيّين بحياتِنا وبرسالتِنا. نريد أن نكونَ بلسَمَ عزاءٍ روحيّ ومعنويّ ومادّيّ، لكلٍّ منهم، بقدر استطاعتنا. من أجلِهم نصلّي، نصوم، نتقشّف، ومن أجلهم نقوم بأعمال حسّيّة.
لذا، من ناحية، ندعوكم إلى تكثيفِ الصلاةِ، وممارسة الصومِ والإماتة والتقشّف، من أجل وطننا الحبيب لبنان، ومن أجلِ السلامِ فيه، ومن أجلِ كلّ مقيمٍ على أرضه. صلّوا من أجلِ المحبّة والخيرِ في كلِّ قلب. هكذا يأتي ملكوتُ الله إلى كلّ أحد. صلّوا من أجلِ السَلام في كلِّ العالم. لا شيء يبرّرُ القلبَ الحاقدَ والقاتلَ والعنيفَ، عند أيّ إنسان".
ويقول أيضاً: "وإنّنا، من ناحية أخرى، نعلِمُكم أنّ مجمع الرئاسة العامّة في جلسته القانونيّة رقم 37/2024، المنعقدة برئاستنا في 30 أيلول 2024، قد أعرَب عن همٍّ واضح في المساعدة، وفي أن تكون المساعدة حسّيّة. لذلك، اتّخذ مجمع الرئاسة العامّة قرارًا رقم 243701 بتقديم مبلغ من المال إلى عدد كبير من العائلات الّتي تركت بيوتها وقراها ومنطقتها. فضلاً عن ذلك، سوف تقدّم الرئاسة العامّة مساعدات عينيّة من الطعام وغيره الى هذه العائلات. يتابع هذا الملف، حضرة الأب طوني فخري الجزيل الِاحترام، مدبّر القطاع الرعائيّ والرسوليّ والاجتماعيّ، ويعاونه حضرة الأب الرئيس سمير غاوي المحترم، مسؤول دائرة الشؤون الاجتماعيّة في هذا القطاع، مع جميع العاملين في هذه الدائرة. لهما، ولهم جميعًا، الشكر الجزيل بِاسمنا جميعًا.
في هذا الإطار، نرغب إلى كلّ رئيس دير أو مركز، في لبنان وخارجه، عقدَ مجمع ديريّ استثنائيّ، في أسرع وقتٍ ممكنٍ، من أجل إظهارِ روحِ التضامنِ والمساعدة، خصوصًا من خلال تخصيص مبلغٍ يقدّمه الدير الى الصندوق الِاجتماعيّ في الرهبانيّة، وربّما من خلال أمورٍ عينيّة تقترحونها أيضًا للمساعدة، وذلك بالتواصل والتنسيقِ مع حضرة الأب المدبّر طوني فخري وحضرةِ الأب الرئيس سمير غاوي. كذلك على المسؤولين في المؤسّسات، اتخاذ قرار في المبلغ الّذي يريدون تقديمه دعمًا للصندوق الِاجتماعيّ في الرهبانيّة، وفق الآليّة المعتمدة في المؤسّسة، وأيضًا بالتواصل مع الأب المدبّر طوني فخري ومع الأب الرئيس سمير غاوي. كما إنّنا نشجّع الرؤساء والمسؤولين على استقطاب المساعدات من أصدقاء الرهبانيّة أو من أناس خيّرين، في لبنان وفي العالم كلّه، دعمًا للصندوق الِاجتماعيّ في الرهبانية. بإمكان كلِّ مساهمٍ الِاطّلاع على عملِ الصندوقِ الِاجتماعيّ في الرهبانيّة، خصوصًا أنّنا سنحرص، كلَّ الحرص، على تدوين أسماء المستفيدينَ وعلى حفظِ الإيصالاتِ لِكُلٍّ منهم، من أجل الشفافيّة ومن أجل تدوينها في سجلّات الرهبانيّة.
أيضًا، نرغب إليكم، بإلحاح، في أن يتمّ كلّ استقبال لنازحين بعد إذننا الصريح، وفي أن تتمّ جميع المساعدات في كلّ دير ومركز ومؤسّسة، بالتنسيق مع الأب المدبّر فخري، خصوصًا المساعدات المتعلّقة بالنزوح. وسوف يطلِعنا حضرة الأب المدبّر فخري، مع مجمع الرئاسة العامّة، تباعًا، على مجريات الأمور.
كما إنّنا ندعوكم، فضلاً عن التفكير بالّذين تركوا بيوتهم قصرًا، إلى الِاهتمام، كلِّ الاهتمام، بمن قلنا إنّهم على تماسٍّ معنا، أي جيران الدير، والموظّفينَ والأساتذة والإداريّين وكلّ الأفرقاء المعنيّين بحياتنا وبرسالتنا. لذا، نعوّل كثيرًا على الحسّ الإداريّ لدى كلّ رئيس ومسؤول، من أجل التنسيق مع الوكالة العامّة، لتأمين معاشات الموظّفين والأساتذة ومستحقاتهم، لفترة زمنيّة منطقيّة، إذ ليس أحدٌ على علمٍ بطول فترة الأزمة.
لكنّ الأزمة سوف تنتهي، وستتواصل بعدَها رسالةُ رهبانيّتنا الّتي نحبّ. المهمّ الآن، خِلال الأزمة، أن نقف وقفَةَ العزِّ الرهبانيّة، وقفَةَ المساعدةِ تجاهَ شعبنا. نحن من أجلهم نتمّمُ خدمتنا. نحن لا نُحبط، مهما جرى حولنا، لأنّنا أبناءُ الرجاء، أبناءُ سيّد التاريخ الّذي نظَرُه عَلَينا وعلى عملِنا، يحبُّنا وينتظِرُ منّا كلَّ المحبّةِ تجاهَ كلِّ إنسان. إنّ الربَّ يسوعَ هو الألفُ والياء. له المجد إلى الأبد".