أثار التفجير بالكنيسة في دمشق مخاوف أنصار النظام، بينما تأمل خصوم النظام أن ترتفع التحدّيات وتتضاعف. حتّى الآن هناك عدّة مصادر للتحدّيات أهمّها الملفّ الاقتصادي والملفّ الكردي، لكن يمكن، إذا كان هناك مهتمّون أو أصحاب مصالح، استخدام داعش، واستخدام العامل الطائفي والآخر الأمنيّ، إنّما إضافةً إلى الملفّ الكردي، ليس هناك خطر عاجل إلّا من الجانب الإسرائيلي.
هناك إجماع على سوء الوضع المعيشي والاقتصادي في سورية. بيد أنّ التفجير الذي استهدف المصلّين في الكنيسة بدمشق أوصل احتقانات الخطر إلى ذروةٍ ما عرفتها البلاد منذ هرب الأسد وبزوغ نجم أحمد الشرع. كانت هناك توتّرات وأحداث عنفٍ كما نعرف في الساحل السوري ومع الدروز. وقد ربطنا أحداث الساحل ببقايا نظام الأسد، وأحداث الدروز بالإغراء الإسرائيلي.
منذ سقوط بشّار الأسد توالت الإنذارات والتحذيرات من عودة داعش إلى الحياة والنشاط، في البادية وعلى الحدود مع العراق. اتّخذت الحكومتان العراقية والسوريّة إجراءات وتحشيدات لمكافحة مجموعات داعش الخفيّة. ولقد كان عجيباً أن تبدو أخطار داعش في مناطق “قسد” وبجوارها. فحتّى الذين فجّروا بالكنيسة أتوا من تلك المناطق بجوار “قسد”. ما عاد داعش ظاهرةً بحدّ ذاتها، بل يلتفت العارفون مثل الأميركيين والعراقيين والعرب والأتراك، عندما يتحرّك بعض الدواعش، إلى الفريق الذي يستثير داعش أو يستعين به من أجل تحقيق مصالح معيّنة أو لفت الانتباه.
منذ سقوط بشّار الأسد توالت الإنذارات والتحذيرات من عودة داعش إلى الحياة والنشاط، في البادية وعلى الحدود مع العراق
الأكراد والحضور الأميركيّ
كما سبق القول، التحدّيات التي تواجه النظام الجديد بسورية كثيرة، إنّما ليس أهمّها الساحل ولا الدروز، بل الوضع الاقتصادي والأكراد وإسرائيل، هكذا بالترتيب. توصّل الشرع إلى اتّفاقٍ شاملٍ مع الأكراد، لكنْ لم ينفّذوا من بنوده شيئاً تقريباً. وتأتي الضغوط عليهم من عدّة جوانب: التهديد التركيّ، ونوايا الأميركيين واستعداداتهم للانسحاب، وكيف يعيد الأكراد تدوير وتدبير أمورهم بدون حزب العمّال الكردستاني، وبدون الثروات التي يكسبونها من الأقاليم التي يسيطرون عليها! يريد الأميركيون الذين يدعمون الأكراد عسكريّاً واقتصاديّاً الانسحاب من القواعد الثماني باستثناء واحدة (قاعدة التنف) التي تفيد في استمرار مراقبة الوضع بسورية والعراق، وليس لجهة داعش فقط، بل ولجهة الميليشيات العراقية.
الأميركيّون راضون عن الاتّفاق الذي أجراه الشرع مع الأكراد، بل إنّهم وقّعوا تحت ضغوطهم لإنهاء وضعهم الاستثنائي بالبلاد ما دام الأميركيون يريدون الاستيلاء على الوضع السوري، وإذا كانوا موجودين بسورية فلا خوف على المسيحيّين ولا على الأكراد. وبالطبع ما اكتفى الأميركيون بالضغط، وشاغلهم مخيّمات داعش الضخمة التي يقوم الأكراد بحراستها وإدارتها، بل هجم الأتراك أصحاب المصلحة الأولى في إنهاء المنطقة الكرديّة الخاصّة. قالوا إنّهم مستعدّون لمساعدة السلطة السورية في إدارة المخيّمات، وأنذروا الأكراد بالعودة للهجوم عليهم، وقد تآكلت مناطقهم في السنوات الأخيرة بسبب الوجود العسكري التركي في الشمال والشمال الشرقي.
لا يريد الأكراد أن ينسحب الأميركيون. وفي السرّ يقولون للأميركيّين: لا يستطيع أحدٌ أن يحرس المخيّمات كما نحرسها، وأمّا الشرع فلا يختلف في الحقيقة عن الأكراد، فكيف سيؤمِّن المخيّمات ويلاحق داعش؟! وهكذا تحرُّك داعش هو لإنذار السلطة السورية والأميركيّين والأتراك، بل وتخويف فئات الشعب المختلفة من السيطرة السنّيّة.
لا يخشى الأكراد وحدهم من الشرع، بل يخشى منه المسيحيون أيضاً. فقد كانوا يتمتّعون بامتيازات أيّام الأسدين، وكلّ رجال دينهم، وبخاصّةٍ يوحنّا العاشر اليازجي بطريرك الأرثوذكس، من اختيار النظام السوري السابق. وقد حرصت السلطة السورية الجديدة على حراسة مناسباتهم في الأعياد، وتعلم مدى حساسيّة الدوليّين تجاه المسيحيّين. لكنّ السلطة الجديدة أو القديمة لا تستطيع حراسة الكنائس والأحياء المسيحية كلّ الأوقات! ومع ذلك هذه مسؤوليّة السلطات القائمة ولا يستطيع أحدٌ تولّيها عنهم.
أثار التفجير بالكنيسة في دمشق مخاوف أنصار النظام، بينما تأمل خصوم النظام أن ترتفع التحدّيات وتتضاعف
سوريا المضطربة واستقرار لبنان
ينصرف مراقبون متحزّبون إلى اتّهام السلطة السوريّة الجديدة بالتطرّف والإرهاب لأنّ أصلها من هيئة تحرير الشام، على الرغم من تظاهر أحمد الشرع بغير ذلك كما هو معروف. لكنّ هذا غير صحيح، فمنذ سنوات تنشب نزاعاتٌ وحروبٌ بين داعش وفصائل هيئة تحرير الشام بسورية بعد إخراج الهيئة من العراق تماماً. ولستُ أزعم بعد طول التجربة والمراقبة أنّ النزاع عقائديّ، فهؤلاء من الطرفين لا اعتبار بعقائدهم، بل الصراع على السلطة والأرض والمكاسب والأمن، وبخاصّةٍ أنّ الدواعش مُلاحَقون في كلّ مكان.
الأكثر اهتماماً ببقاء الأميركيّين هم الأكراد، وهم لا يعرفون، علاوة على الخوف على الغنائم والثروات، ماذا يفعلون بآلاف المسلّحين من حزب العمّال الكردستاني الذين يقف لهم الجيش التركي بالمرصاد. ولذلك سواء أمِنْ البادية جاءت إغارة إرهابيّي داعش على الكنيسة بدمشق أم من مناطق الشمال الشرقي، فلا يستفيد منها إلّا الفريق الذي يريد بقاء الأميركيّين بسورية. ولذلك يكون من الطريف والسخيف في الوقت نفسه العودة إلى إدخال طرابلس، ولقبها في الأصل طرابلس الشام، في المشهد الداعشيّ.
لقد كدنا ننسى أنّ “الحزب” بعد عام 2011 وتدخّله العسكري بسورية المضطربة على الأسد، ضمّ إلى ميزاته الكثيرة ميزة التصدّي لداعش في لبنان قبل سورية، لأنّه في سورية كانت أولويّته حماية مقام السيّدة زينب من التكفيريّين أيضاً(!). الآن وبعد التفجير في الكنيسة بدمشق، تصاعدت الإثارة في لبنان قبل سورية، وظهر داعش في كلّ مكان.
ليست سورية في عين العاصفة، بل قد يكون الوضع فيها الآن أفضل من لبنان
نادراً ما سمعنا في الأيّام الأخيرة كلاماً يدعو إلى الهدوء والوحدة والتضامن الوطني والعربي والتعايش المسيحي الإسلامي. فسورية المضطربة هي التي أعاقت هدوء لبنان وانحلال أزماته. والعودة خطِرة، والأخطر أن تكون أميركا أحرص على الاستقرار السوريّ من اللبنانيّين!
أخطار استراتيجيّة
تواجه سورية الجديدة تحدّيات كثيرة، منها بالطبع الهواجس والمخاوف بين الأقلّيات. بيد أنّ أخطرها بعد الوضع الاقتصادي التغوّل الإسرائيليّ، فإمّا الإغارات المستمرّة في العمق، وإمّا سلام الخضوع (المكتوب). لقد عاد الرئيس ترامب للحديث عن الاتّفاقات الإبراهيميّة. لكنّ الوضع بالنسبة لسورية أصعب، فحتّى السلام الإبراهيميّ لا يستطيع السوريون الدخول فيه إلّا بعد التوقيع على التخلّي عن الجولان.
عندما قال لي بعض السوريّين إنّ انتخابات ستجري بسورية استصعبت الأمر، فعرضوا عليّ المرسوم الصادر بذلك. فإذا كان هذا صحيحاً، فقد تكون في ذلك مبادرة عاقلة لدعم شرعيّة النظام! ونحن نقول دائماً: سورية القويّة أمانٌ لنفسها ولمحيطها، وأمّا سورية الضعيفة فهي عبءٌ كبيرٌ على نفسها وعلى المحيط.
ليست سورية في عين العاصفة، بل قد يكون الوضع فيها الآن أفضل من لبنان. بيد أنّ الأخطار التي تتهدّد سورية استراتيجيّة، وتتعلّق بوحدتها الداخلية كما تتعلّق باستضعاف سورية وتجبّر إسرائيل.