محمّد جابر الأنصاريّ.. السّاعي إلى المصالحة المستحيلة- بقلم رضوان السيد

  • شارك هذا الخبر
Wednesday, February 5, 2025

لماذا الكتابة الآن عن محمد جابر الأنصاري؟

وفاته، رحمه الله، مناسبة تستحقّ الكتابة. لكنّ هناك ما هو أهمّ، وهو أنّه كان أحد آخر المفكّرين العرب الساعين على الدوام إلى المصالحة. ما كان الأنصاري يصدّق أنّ العربي يمكن أن يدخل في خلافاتٍ تخريبيّة لبلده، وعندما حدث الاضطراب في العراق، ثمّ في سورية وليبيا واليمن ولبنان، قال في حلقةٍ نقاشيّةٍ: هذا انقلاب الزمان، وعمل السياسات الدولية. الأزمات عند العرب هي دائماً أزمات أخلاقية، ولو تأمّلنا ما يجري لما وجدنا فيه أثراً للأخلاق.

كان محمد جابر الأنصاري المفكّر البحرينيّ البارز أحد أهمّ المفكّرين العرب منذ ثمانينيات القرن العشرين. وما اشتهر الأنصاري لأنّه كان داعية تصالُح وتلاقٍ بين العرب في الفكر والسياسة. بينما اشتهر المغاربة وبعض المشارقة لأنّهم كانوا راديكاليين ومن دُعاة القطيعة. الأنصاري هو آخِر مفكّري زمن الصراع على العرب والإسلام. وقد توفّي أخيراً بعد مرض عضال. ولذلك، ولأنّه كان متميّزاً في تلك الحقبة، أردتُ التذكير به.

كان من حسن الحظّ أن رأيتُ أطروحة الأنصاري للدكتوراه بعنوان “الفكر العربي وصراع الأضداد عام 1977 أو 1978″، على طاولة الأستاذ إحسان عباس فقرأتها، ثمّ اصطحبني الأستاذ إحسان بعد أيام لمناقشة الأطروحة بالجامعة الأميركية ببيروت.

طوال ثلاثة عقودٍ ونيّف، ظلَّ الأستاذ الأنصاري غزير الإنتاج. وكان حريصاً على المتابعة، وواسع الاطّلاع على الفكرين العربي والأوروبي في القرن العشرين. وعلى اهتمامه بالتجديد والانتصار له، ما كان يقول بالقطيعة، وتزعجه راديكاليّات أصدقاء العروبة والإسلام وأعدائهما.

أذكر له جدالاً في معرض الكتاب بالكويت في التسعينيات مع أدونيس بشأن عدائه للعروبة والإسلام. وقد قال له: عندما أسمعك تتحدّث بهذه العربيّة الجميلة أشعر كأنّما تتنكّر للعروبة مقاوحةً ولكي يقال إنّك ذكيّ وحديث! كيف يستطيع الواحد منّا أن يكره نفسه ومدينته بحجّة الحداثة أو لأنّ هذا النظام أو ذاك لا يعجبه. سنبقى عرباً دونما بعثيّة تدّعي التطرّف، ولا أقلّوية بحجّة التميّز والتمييز. وأنت يا علي أحمد سعيد بأيّ لغة ستُقرأ إلّا بالعربيّة؟!

العودة إلى الطّريقة الوسطى

في صراع الأضداد، وهي أطروحته للدكتوراه، درس الأنصاري أطروحات أنصار الغرب وخصومه في النصف الأوّل من القرن العشرين. ولاحظ أنّ كلّاً منهم بما في ذلك طه حسين وزكي نجيب محمود، عادوا في شيخوختهم إلى الطريقة الوسطى دونما تطرّفٍ أو مثنويّة.

في كتابه “تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطريّة”، نبَّه إلى أنّه قبل الاستعمار كانت هناك كيانات قطريّة ولم تكن تملك طموحاً للتوسّع. لا يقصد إلى معارضة الوحدة، لكنّه لا يرى ضرورةً لمعاداة الدول العربية الصغيرة بحجّة أنّها مصنوعة (!). يقال إنّ المستعمرين الفرنسيين كانوا يميلون لاستعمال الأقلّيات فنشروا الانقسامات، وإنّ الاستعمار البريطاني ما كان يميل للتقسيم.

لكنّ الأنصاري يرى أنّ هذا كلّه تاريخ حديث. الأنثروبولوجيون يقولون إنّ مجتمعاتنا هي مجتمعات انقسامية (!)، فهل هذا صحيح؟ لقد كان همُّ الوحدة بارزاً منذ أيّام النبيّ (ص)، وظلَّ همّاً على مدى العصور. فالأحرى تقبُّل الدول الطبيعية جغرافيّاً أو إثنيّاً، دونما توقّف عن السعي من أجل التعاون والتضامن الذي لا يُلغي الخصوصيّات. وهكذا كان نقاش الوحدة والانقسام هو ديْدنه في الكثير من كتبه مثل “التأزّم السياسي عند العرب” و”العرب والسياسة.. أين الخلل؟” و”مدخل إلى فهم الواقع العربي”.

كان جرح الانقسام العربي غائراً في العمل الفكري لمحمد جابر الأنصاري. فحتّى هزيمة عام 1967 اعتبرها انقساماً عندما كتب “الناصرية بمنظور نقديّ” و”مساءلة الهزيمة”. وعندما قابلته آخر مرّة عام 2021 ذكّرني بكتابه “تجديد اكتشاف الذات ونقدها”، باعتبار أنّ الانقسام يبدأ بالدواخل.

المسألة الإسلاميّة

بعد عام 2001 شغلته، مثلنا جميعاً، المسألة الإسلامية. كان يسأل نفسه: لماذا يتعامل المسلمون مع أنفسهم باعتبارهم أقليّةً لا بدّ أن تثور على العالم؟ وكان يختلف معنا في فهم الأصوليّات. نحن نذهب إلى أنّها متغيّرات الحداثة، وما الأصوليّة ظاهرة حديثة. وهو يذهب إلى أنّها جمود قاتلٌ على القديم الذي نسيناه، ولذلك يبدو لنا حديثاً. ورأى أوّلاً أنّ الحروب التي أثيرت على الأصوليّات ستؤدّي إلى زوالها، ثمّ صار يرى أنّ الحروب عليها، وبخاصّةٍ إن كانت من الأجانب، فسوف تجدّدها وتزيدها راديكالية!

في كتابه “شواغل الفكر بين الإسلام والعصر”، درس ظاهرتين: الأولى هي الثبات على التقليد، والأخرى هي النزوع إلى التجديد والتغيير. وأورد شواهد على النزعتين في القرن العشرين. ورأى أنّ نزعة المحافظة تظلّ أقوى، ولدى المصريين يهدأ الثائرون في شيخوختهم. واستغرب كم يكره العرب الانقسام، وكم يقعون فيه لأسبابٍ سخيفةٍ أحياناً.

في كتابه “سوسيولوجيا الإسلام، لماذا يخشى الإسلامويّون علم الاجتماع؟”، رأى أنّ علم الاجتماع معنيّ بالتغيير، والتغيير لدى الإسلاميين يعني ابتعاداً عن الدين (!). وهذا غير صحيح، فالتغيير ضرورة اجتماعية، والدين لا يتزحزح، وإنّما لديه مرونة في التغيُّر، ويختار الوسائل التي يعود من خلالها للظهور.


أساس ميديا