مستقبل الجاسوسيّة في ظلّ ثورة الذّكاء الاصطناعيّ- بقلم موفّق حرب
شارك هذا الخبر
Monday, January 6, 2025
خلال الحرب الباردة، كانت لعبة التجسّس تعتمد على ذكاء البشر وخيانة الأمانة وشجاعة العملاء. كان جيمس بوند، شخصيّة إيان فليمنغ الشهيرة، يعتمد على الأدوات المتطوّرة والسحر الشخصي. بينما كان جورج سمايلي في روايات جون لو كاري يعتمد على المراقبة النفسية الدقيقة، وتناول أبطال توم كلانسي الصراعات الجيوسياسية المعقّدة من خلال استراتيجيات بشريّة.
لكن مع دخولنا عصر الذكاء الاصطناعي، تتغيّر ديناميكيّات التجسّس بوتيرة غير مسبوقة. وهو ما يثير تساؤلات عن مستقبل الاستخبارات البشرية التقليدية وأسلوب عملها في عصر الآلات والبرمجيّات المتقدّمة.
أصبحت وكالات الاستخبارات تمتلك القدرة على الوصول إلى كميّات هائلة من البيانات من مصادر متعدّدة، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي، وصور الأقمار الصناعية، والتقاط الاتّصالات. وتتميّز خوارزميّات الذكاء الاصطناعي بقدرتها على معالجة هذه البيانات بسرعة وبكفاءة تفوق قدرة البشر. وهو ما يتيح كشف أنماط معقّدة مثل غسل الأموال أو السلوكيّات المشبوهة لإرهابيين محتملين والقدرة على اتّخاذ القرار بشكل سريع. وهذا يجنّب إضاعة الفرص المتاحة. ولقد تمّ استعمال الأساليب الجديدة في الحرب على الإرهاب وحرب أوكرانيا ولبنان وغزة بشكل مكثّف.
المراقبة والاستطلاع
أحدث الذكاء الاصطناعي ثورة في أساليب المراقبة باستخدام تقنيّات التعرّف على الوجه والطائرات بدون طيّار ومعالجة اللغة الطبيعية. وبينما اعتمد جواسيس الحرب الباردة على الملاحظة البشرية والأدوات البدائية، يمكن للأقمار الصناعية المزوّدة بالذكاء الاصطناعي الآن تتبّع تحرّكات القوّات في الوقت الفعليّ، وتحليل الملايين من المحادثات بحثاً عن كلمات مفتاحيّة وتحرّكات غير نمطية.
دعم اتّخاذ القرار
تساعد أنظمة الذكاء الاصطناعي على تقديم تحليلات آنيّة ورؤى تنبّئيّة تدعم اتّخاذ القرارات. من خلال محاكاة السيناريوهات، يمكن للذكاء الاصطناعي مساعدة وكالات الاستخبارات في توقّع تحرّكات الخصوم وتعزيز التخطيط الاستراتيجي والوصول إلى استنتاجات قريبة جدّاً من الواقع.
مستقبل الاستخبارات البشريّة
على الرغم من التقدّم الذي حقّقه الذكاء الاصطناعي، تظلّ الاستخبارات البشرية (HUMINT) لا غنى عنها. فالتجسّس، في جوهره يدور حول فهم الدوافع الإنسانية بقدر ما يتعلّق بجمع المعلومات.
– الذكاء العاطفي وفهم التفاصيل الدقيقة:
يمكن للآلات معالجة البيانات والمعلومات، لكنّها لا تستطيع تقليد الفهم العاطفي الدقيق للعلاقات البشرية والثقافات. جاسوس مثل جورج سمايلي كان يتميّز بقدرته على فهم الدوافع والضعف البشري من خلال التفاعل المباشر، وهو ما يعجز عنه الذكاء الاصطناعي.
– ويبقى عدم توقّع السلوك البشري تحدّياً لأجهزة الأمن ومكافحة الإرهاب والتجسّس لأنّ البشر يتميّزون بسلوكيّاتهم غير المتوقّعة التي يصعب على الخوارزميّات توقّعها. غالباً ما يعمل الجواسيس في مناطق رمادية حيث تتغيّر الولاءات والقرارات الشخصية بسرعة.
يعتمد تجنيد العملاء أو بناء التحالفات على الثقة والتعاطف والحسّ الثقافي. وهي خصائص لا يمكن لأيّ آلة تكرارها. فمن يقوم بتجنيد العملاء يعتمد على المشاكل النفسية لتحديد العملاء المحتملين أو على ابتزازهم.
العملاء البشريون هم المفتاح لكشف التضليل والخداع. في حين يمكن للذكاء الاصطناعي اكتشاف الظواهر الشاذّة، فإنّه يحتاج إلى الحسّ البشري لفهم النوايا خلف هذه التحرّكات. ويمكن للذكاء الاصطناعي أن يُغَشّ في أعمال التضليل أو مكافحة التضليل الذي يعتبر من أسس عمل الاستخبارات أثناء الحروب أو حتّى في فترات التحضير لها.
تجنيد الجواسيس في عصر الذّكاء الاصطناعيّ
تتطور طرق تجنيد العملاء أيضاً. خلال الحرب الباردة، اعتمدت الوكالات على الأيديولوجية أو الحوافز الماليّة أو الابتزاز لتجنيد العملاء. اليوم، تحتاج إلى التكيّف مع عالم مترابط ورقميّ.
يمكن للذكاء الاصطناعي تحديد الأشخاص المحتمل تجنيدهم من خلال تحليل بصمتهم الرقمية وأنماط حياتهم الخاصّة. لكنّ الخطوة الأخيرة، وهي بناء الثقة وتحقيق التعاون، تظلّ مسؤولية الإنسان.
يبقى الهاجس الأخلاقي موجوداً ويرافق هذه التحوّلات في عصر الذكاء الاصطناعي. يثير الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في التجنيد تساؤلات أخلاقية، خاصة في ما يتعلّق بالخصوصية والمراقبة. إلّا أنّ التطوّر التقنيّ سبق إلى حدّ بعيد القوانين والتشريعات.
بينما يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل عالم التجسّس، من غير المرجّح أن يلغي دور الاستخبارات البشرية. إنّ الجمع بين قوّة معالجة البيانات التي يوفّرها الذكاء الاصطناعي والذكاء العاطفي والمرونة التي يتمتّع بها العملاء البشر يمثّل النهج الأكثر فاعليّة للتجسّس الحديث. التحدّي يكمن في دمج الأدوات الجديدة دون فقدان جوهر التجسّس باعتباره فنّاً وعلماً على حدّ سواء حتى الآن، بانتظار تطوّر تقنيّات الذكاء الاصطناعي و”الكوانتوم كومبيوتر”.