جدل الأولويات السورية ودروس الانتقال السياسي- بقلم نديم قطيش
شارك هذا الخبر
Tuesday, January 7, 2025
يخشى السوريون من أن تضيِّع السجالات السياسية إنجاز إسقاط نظام الأسدين، بعد 54 عاماً من الحكم. يهرب معظمهم من الاستحقاقات السياسية الصعبة نحو التركيز على أولوية إعمار البلاد المهدمة نتيجة 14 عاماً من حرب النظام المتواصلة على الشعب. وتبدو الأولوية بالنسبة للكثيرين واضحة: إعادة بناء البنية التحتية، وتوفير الخدمات الأساسية، وضمان سبل العيش للملايين، والسماح لملايين النازحين بالعودة.
بيد أن الانكباب على إعادة الإعمار المادي وحده لن يبني دولة مستقرة، من دون الانخراط الصادق والعميق في ورشة الإصلاح السياسي التي تضمن إعادة تكوين شاملة لهياكل السلطة، وتثبيت قواعد متينة للحكم تعكس التنوع المجتمعي السوري. فآخر ما يحتاجه السوريون اليوم هو التأسيس لعودة الصراع الأهلي، أو إبقاء عدم الاستقرار شبحاً حاضراً، وإن مخفياً خلف ورش تشييد المباني أو تعبيد الطرق.
تحضر في هذا السياق دروس ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث أُسِّس لأنظمة حكم معتدلة وحديثة، عبر المزج بين إعادة الإعمار وقيادة التحول السياسي الشامل، والتي أفضت إلى سلام دائم وازدهار مستمر. ولعل الأمثلة المعاصرة والأكثر ملاءمة لجوانب محددة من الأزمة السورية، هي رواندا وجنوب أفريقيا وكوريا الجنوبية؛ حيث أضيفت أولوية المصالحة إلى الإصلاحات السياسية، وبناء المؤسسات، وجهود التعافي الاقتصادي.
خروج سوريا من جحيم الإبادة الأسدية يشبه مسار رواندا التي حطمتها الإبادة الجماعية عام 1994، والتي ما قامت لها قائمة إلا لأنها أعطت الأولوية لبناء تقنيات وآليات فعالة تتيح مصالحة مجتمعية حقيقية وعميقة ومستدامة، مثل محاكم «الغاكاكا» التي أعادت بناء النسيج الاجتماعي الرواندي، وخدمت تحقيق العدالة الانتقالية في الوقت نفسه.
فعبر الاعتراف بالجرائم والمصارحة بين الضحايا والجناة، ساهمت محاكم «الغاكاكا» التقليدية في رواندا في إعادة بناء الثقة والنسيج المجتمعي في البلاد، عبر العفو المشروط، وإعادة دمج الجناة الصغار، وتعزيز الحوار المجتمعي المفتوح. أما الشق الثاني الذي بدأه السوريون بالفعل نتيجة وفرة تطبيقات التواصل الاجتماعي، وكفاءة السوريين في استخدامها، فهو التركيز على توثيق جرائم النظام السابق، وبناء ذاكرة جماعية لمعاناة سورية مشتركة، ستشكل -كما في «الوصفة الرواندية»- أساساً متيناً لعدالة ذكية تعالج جذور الصراع وتمنع تكراره.
تواجه سوريا -بتنوعها الطائفي والعرقي- تحديات مشابهة، لا يمكن لها إلا أن تزداد حدة في ظل حكومة عقائدية إسلامية. صحيح أن خطاب أحمد الشرع شكَّل مفاجأة سياسية كبيرة، بالنظر إلى تاريخ «جبهة النصرة» التي قادها بصفته السابقة: «أبو محمد الجولاني»، إلا أنه كلما عجَّل في التخفف من نموذج حكم يقوم على هوية آيديولوجية واحدة، بدد الانقسامات التي مزقت البلاد، وضمن توسعة التمثيل السياسي المانع للإقصاء والإحباط. إن مثل هذه الهواجس والتوترات الكامنة ليس بوسع جهود إعادة الإعمار وحدها تجاوزها.
الجانب الآخر المفاجئ، هو إدراك الإدارة السورية الجديدة لحاجتها إلى دور المجتمع الدولي، القريب والبعيد، كشريك في المرحلة الانتقالية؛ لكن هذه الشراكة لا يمكن لها أن تقتصر على علاقةٍ عنوانها الدعم الاقتصادي، أو الدعم السياسي، لقرار رفع العقوبات، من دون ضمان بناء قدرات حكم محلي تحول دون تجدد أسباب الاقتتال الأهلي وانهيار الاستقرار.
فالانتقالات السريعة في العراق وأفغانستان، واستعجال استثمار الشرعيات الثورية، وتهميش الإصلاحات السياسية والمؤسسية، والبناء فقط على تحقيق الأهداف العسكرية وإنجاز إسقاط النظام القائم، تقدم دروساً قاسية حول ما لا يجب فعله.
فتفكيك مؤسسات النظام من دون بدائل واضحة ومناسبة -كما حدث في العراق- أو الاعتماد المفرط على المساعدات الخارجية من دون تعزيز الشرعية والكفاءة المحلية -كما في أفغانستان- أدى إلى زعزعة الاستقرار بشكل أكبر في البلدين، وتعطيل نهوضهما إلى الآن.
سوريا لا يمكنها تحمل تكرار هذه الأخطاء. ما يعوز سوريا الآن هو وضع معايير واضحة لإعادة تكوين السلطة، لإنتاج مؤسسات يقودها سوريون يتمتعون بأوسع صفة تمثيلية ممكنة، وفي فترة أقل بكثير مما تقترحه الإدارة الجديدة لكتابة الدستور وإجراء الانتخابات.
من حق السوريين الذين قدموا في مجتمعات النزوح تجارب نجاح اقتصادي باهرة، أن ينعموا بالانتعاش الاقتصادي في بلدهم، بعد الخلاص من نظام الأسدين. لكن باب الاستدامة في هذا المجال، والذي يعد جزءاً حاسماً من معادلة استعادة سوريا، يظل مرتبطاً بطبيعته بالاستقرار السياسي، والقدرة على جذب المستثمرين والداعمين السوريين والأجانب. صحيح أن الإصلاح السياسي مشروع طويل الأمد، وأن الأولويات الفورية تتمحور حول توفير الغذاء والمأوى والرعاية الصحية، بيد أن الإصلاح السياسي وإعادة الإعمار المادي ليسا متناقضين، إلا لمن يريد أن يجعل من تناقضهما الوهمي باباً لتعطيل الإصلاحات السياسية وتأجيل الانتخابات إلى لحظة أكثر ملاءمة، أو بناء حكومة احتكارية حزبية وفق قاعدة غالب ومغلوب.