هذا هو الرّئيس! - بقلم جان عزيز

  • شارك هذا الخبر
Friday, January 3, 2025

رحم الله سجعان قزّي. أروع من رصّع صورة رئيس الجمهورية، حين وضعَ على لسان بشير الجميّل في خطاب أنطلياس الشهير في تشرين الثاني 1981، هذه الكلمات:

“نريد رئيساً وقف ولو مرّة أمام قبر شهيد.

نريد رئيساً يكون صاحبَ رؤية وطنية تبلغُ حدودَ الحلم، لا صاحب شهوة سياسية لا تتعدّى حدود الحكم.

نريد رئيساً يقيمُ علاقة متناسقة بين حواسّ الوطن، ويصرّف لبنانَ بصيغة المستقبل، فيستعمل أفعال الغضب وأدوات التحذير وأحرف الرفض وأسماء الجزم.

نريد رئيساً يأتي لينقض لا ليكمل، ينقل لبنان من حال التعايش مع الأزمة ومشاريع الحلول إلى حال الخروج من الأزمة وفرض الحلول”.

هذا الرئيس يحتاج إليه لبنان واللبنانيون يوم الخميس المقبل. وواجب النوّاب أن يختاروه من بين هذه النماذج والصور.

يدعو بعض الحرصاء على الدولة اليوم إلى تكرار نموذج الياس سركيس رئيساً، الرئيس الذي جاء بعد حرب السنتين، باتّفاق سوري أميركي، مع موافقات عربية وأوروبية.

لكن مَن مِن المطروحين حالياً يشبه الياس سركيس؟ من الآتي منهم من قلب الإدارة اللبنانية وهيئات رقابتها النزيهة الحرّة حتى المواجهة؟

مَن مِن هؤلاء أوقفَ، كما فعل الياس سركيس، معاملةً مخالفة للأصول، حتى انتبه إليه فؤاد شهاب ودوّن اسمه في دفتره الصغير، ليكون ضمن فريقه في القصر بعد أعوام؟

ثمّ حتى لو وُجدَ الآن سركيس الثاني، فهل المرحلة مشابهة لمرحلة 1976؟

نريد رئيساً يكون صاحبَ رؤية وطنية تبلغُ حدودَ الحلم، لا صاحب شهوة سياسية لا تتعدّى حدود الحكم
وحتى لو تشابهت، فهل نجحت تلك المحاولة أم ظُلم الياس سركيس وظلمته مرحلته وظروفها وتسويتها، فحَمل وحُمّل مسؤولية أحداثها الجسام، من اغتيال كمال جنبلاط (آذار 1977)، ثمّ أوّل اجتياح إسرائيلي حتى الليطاني (آذار 1978)، ثمّ حرب أشرفية المئة يوم (صيف 1978)، انتقالاً إلى زحلة بعد سنتين (نيسان 1981)، ثمّ احتلال كلّ لبنان (حزيران 1982) في آخر سنة من ولايته، حتّى نالت المآسي من صحّة الرجل، فقضى شهيدها بعد فترة قصيرة على خروجه من تلك المهمّة المستحيلة، مثخناً بجراح الشقيق كما العدوّ، وهو لم يُتمّ الواحدة والستين من سنوات عمره؟

نموذج شارل حلو؟

حرصاء آخرون يقدّمون للحلّ اليوم نموذج شارل حلو، الرئيس المثقّف الهادئ الكاتب المعتدل الذي لا يخالف أحداً ولا يختلف مع أحد.

ومرّة أخرى، يبدو السؤال صارخاً أكثر: مَن مِن المطروحين يشبه شارل حلو الثاني؟!

رحم الله جان عبيد، صاحب فخامة الكلمة، آخر هؤلاء، وأحقّهم بولاية العقل واللغة.

لكن حتى لو وُجدَ بين المطروحين اليوم رجلٌ آخر من طينة “نيافة الحلو الجزويتيّة”، فهل يمكن البناء على تلك التجربة؟!

تسلّم الحلو إرثاً كبيراً من فؤاد شهاب، لائحة مؤسّسات دولتيّة فاعلة قادرة وشاملة، قبل أن تظلمه هو أيضاً ظروفه وظروف البلد. فبعد سنة واحدة على رئاسته، انطلقت أوّل رصاصة فلسطينية من جنوب لبنان، فأصابت رأسَ الدولة اللبنانية، قبل أن تصيب العدوّ في فلسطين المحتلّة، فبدأ النزف أمنيّاً وعسكرياً وماليّاً واقتصادياً، من “فتح لاند” حتى فضيحة مصرف إنترا، ومن تظاهرة 23 نيسان 1969 حتى اتّفاق القاهرة، فاكتفى الرئيس بإنجاز واحد: تأجيل الانفجار إلى ما بعد ولايته، ليذهب بعد نهايتها ويرتاح في بيته، فيما البلد على قلق وأرق.

تماماً كما فعل بعد 18 سنة أيضاً، يوم عُرض عليه تشكيل حكومة انتقالية عشيّة شغور الرئاسة سنة 1988، فاعتذر وفضّل استمراره في تقاعده المريح على لقب “الدولة” بعد فخامتها المضنية.

يدعو بعض الحرصاء على الدولة اليوم إلى تكرار نموذج الياس سركيس رئيساً
رئيس الأكثريّة.. بقوّة الدّستور؟

نموذجٌ ثالث مطروح أخيراً لرئيس “تنافسيّ”، بالمفهوم الديمقراطي الطبيعي لآليّة الانتخابات، رئيس يخرج من إرادة أكثريّة، ولو بصوتٍ واحد، فتقبل به الأقلّية، ويصبح رئيس الجميع بقوّة الدستور ومفهوم مصلحة الدولة العليا. وهو نموذج مطروح اليوم وفق صيغة من اثنتين: إمّا على طريقة سليمان فرنجية (1970) وفارق الصوت الواحد الذي حقّق الفوز لمرشّح من فريق على منافس من فريق آخر، وإمّا على طريقة بشير الجميّل (1982) والصوت الواحد الذي أكمل النصاب، ففاز مرشّح الانقلاب الكبير في موازين القوى يومها، داخلياً وإقليمياً ودولياً.

في الصيغتين، كان البلد على موعد مع قدر بائس. في الأولى، استمرّت النزاعات تتراكم وتتراكب حول إشكاليّات النظام السياسي وموقع لبنان في محيطه، وتأثير قضايا المنطقة واصطفافات العالم عليه… حتى انفجرت حرباً سنة 1975، بعد سلسلة تمهيدات دمويّة بدءاً من سنة 1973.

في الثانية، لم يصل بشير إلى القصر، فشكّل الغدر به تعبيراً دمويّاً عن قصور المعالجات الأحاديّة بوجه تعقيدات اللعبة الدولية، وقدرتها على تفجير أيّ حلّ لبناني، فغاب الرجل، وبات حلماً سكنَ أسطورة السؤال الأبدي عمّا كان قادراً على تحقيقه وإنجازه.

لم يبقَ للبنانَ اليوم إلا نموذجٌ واحد هو نموذج فؤاد شهاب، أي نموذج الرئيس الذي يأتي نتاج معادلة مزدوجة، داخلية وخارجية
نموذج فؤاد شهاب هو المطلوب

لم يبقَ للبنانَ اليوم إلا نموذجٌ واحد هو نموذج فؤاد شهاب، أي نموذج الرئيس الذي يأتي نتاج معادلة مزدوجة، داخلية وخارجية، واضحة ودقيقة، رئيس يُخرج لبنان من أزمة صراعيّة في داخله بمشروع إعادة بناء الدولة على قاعدة التوازن، ويُنقذ لبنان من صراعات خارجية بمشروع استعادة سيادة الدولة على قاعدة التعاون مع محيطه العربي والعالم، رئيس يطمئنُ جميع اللبنانيين ويضمن حقوقهم، لكنّه رئيس يوجِدُ أيضاً الدولة المطمئنّة والضامنة للجميع، فلا يُستفرد لبنانيٌّ واحد، فرداً كان أو جماعة، لكن لا يتفرّدُ أحدٌ بالدولة أيضاً، حزباً كان أو طائفة، لا باسم خوف ولا غبن ولا تعويض ولا امتياز، ولا بفكر انتماءٍ إلى ما هو أوسع من لبنان، ولا تهوّر إلى ما هو أصغر منه، رئيس يعيد لبنان إلى شرعيّاته الضرورية الوجودية الثلاث:

شرعيّته الوطنية على قاعدة الدستور وميثاق الطائف.
وشرعيّته العربية على قاعدة الإجماع العربي وانتماء “جامعته” ومبادرات قممه، من قمّة بيروت 2002 إلى قمّة الرياض الأخيرة.
وشرعيّته الدولية على قاعدة القرارات الأممية ذات الصلة بقضاياه، وبالقضايا المُحقّة التي يلتزم بها لبنان.


رئيس يحقّق ذلك كلّه، ثمّ يرحل بصمت الحقّ والمُحقّ بعد 6 سنوات، بلا ضجيج ولا توريث عائلي، ولا مشروع سلالة حزبية أو سياسية من أيّ نوع كان.

هذه ليست إنشاءات لغويّة، بل خارطة طريق لرئيس ورئاسة وحلٍّ وإنقاذ.

الخميس المقبل أوّل الطريق؟

من قال إنّ الحقّ في الحلم، أو الحلم بما هو حقٌّ، ممنوعان؟!


أساس ميديا