عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم رفيق الحريري عشيّة القتل العظيم.
نذكره ونحن نرتعد في ساحة الشهداء، بينما يقول في بشار الأسد ما لم يجرؤ رجلٌ على قوله. نذكره في شهادته المدوّية أمام المحكمة الدولية، وهو يقول لأرفع قضاتها، وعلى مرأى العالم ومسمعه: اتّصل بي العماد حكمت الشهابي بعد محاولة اغتيال مروان حمادة، وقال انتبه يا وليد، ولم ترتعش له يد أو ترتجف له قامة.
نذكره وهو يخلد مكلوماً ومهزوماً إلى ضفّة النهر الجارف بعدما وضعوا مسدّساً في رأسه وفي فمه وفي جبله. نذكره وهو يرفع لافتة كُتب عليها حمص، وقد ظلّ قلبه يرقد هناك، بعدما تخلّى العالم بأسره عن الثورة اليتيمة في سوريا. نذكره وهو يناصر غزّة والضفة وفلسطين. نذكره وهو يُقارع موفّق طريف على غير عادة الدروز وسجيّتهم. نذكره وهو يتلقّى تهديداً بالقتل من نتنياهو، وقد حمله إليه ملك من ملوك العرب.
نذكر وليد جنبلاط وكأنّه جزء لا يتجزّأ من يوميّاتنا ومن ذواتنا. في كلّ مرّة كنّا نجده حيث تتوقّف بنا الدنيا. يتقدّم صفوفنا. يحمل مشعلنا. يُلملم ما بقي من إرادتنا. ويتوثّب نحو ضالّته وضالّتنا على شاكلة انغماسيّ أو انتحاريّ. ثمّ حين تقع الخسارة لا حرج لديه من العودة خطوتين إلى الوراء. هكذا هو وليد جنبلاط. كلّما اتّفقنا معه أدهشنا. وكلّما اختلفنا معه أدهشنا أكثر.
حاملُ جرحنا المفتوح
اليوم يحمل وليد جنبلاط جرحنا المفتوح ودمنا الثقيل إلى سوريا على رأس وفد درزي كبير، يتقدّمهم كما فعل في 14 آذار من عام 2005، في ذاك المشهد المهيب، حين زحف الجبل خلفه إلى ساحة الحرّية، وعلى يمينه ويساره مشايخ العقل وعمائم الحكمة وصخور المختارة. وها هو يستعيد المشهد عينه في طريقه إلى دمشق على سجيّة الفاتحين، ومنها إلى جبل العرب، وإلى السويداء التي تعضّ على جرحها النازف منذ شطب كمال جنبلاط وحتى اغتيال وحيد البلعوس، مروراً ببحر من الدم والدموع والقهر والعذابات. تلك السويداء التي لا يُلوى لها ذراع ولا يموت لها ميت.
يستحقّ وليد جنبلاط أن يحتفل بانتصاره العظيم، بعد نصف قرن من استحكام الطاغية في دمشق وفي بيروت. كان مجبراً يومذاك أن يعضّ على جرحه العميق بعدما هوت رصاصات الغدر نحو جسد والده، وأن يذهب إلى لقاء فوق الدم مع حافظ الأسد. وها هو يعود إلى تلك البلاد بعدما نبش الثوّار قبره وأحرقوا ضريحه ولاحقوا عائلته وضبّاطه وشبّيحته. وحسبه أن ينظر إلى نجليه وقد جرفهما النهر العظيم إلى مزابل التاريخ.
طالما كنّا نردّد عبر هذه الصفحات أنّنا مع وليد إلى يوم الحرّية، وأنّنا نجد صورتنا فيه أينما حلّ، وها قد وصلنا إلى يومنا المنشود، وها هي قلوبنا تزحف معه إلى دمشق، وفي يدنا وردة حمراء، نضعها فوق بردى، ونضع معها جرحنا المفتوح منذ نصف قرن.