المعارك في سوريا تمهّد للتّفاوض على إضعاف إيران؟- بقلم وليد شقير

  • شارك هذا الخبر
Wednesday, December 4, 2024

يرتسم الشرق الأوسط الجديد انطلاقاً من التطوّرات العسكرية الدراماتيكية في سوريا.

يطرح تحريك الميدان السوري المفاجئ والمعقّد الأبعاد علامات استفهام حول صيرورة المواجهات الدائرة ومصير الأزمة في بلاد الشام. فالمعارك التي انطلقت بين الجيش السوري ومعه التنظيمات الإيرانية، بوجه فصائل المعارضة، مرشّحة للتصاعد، إذا تعذّر مخرج دبلوماسي.

تراوح الأهداف المحتملة لخلط الأوراق، بين التمهيد لحلول سياسية بدفع روسيّ، وبين تقليم أظافر إيران بإضعاف أذرعها بدءاً من لبنان. لكنّ ما يتخوّف منه بعض المتابعين لما تخطّط له دول غربية، هو التمهيد لخيار تقسيم سوريا، إذا استعصت الحلول مع نظام بشار الأسد.

بقيت سوريا خلال الأشهر الـ13 الماضية بمنأى عن حرب غزة نتيجة امتناع النظام عن الانخراط في “معركة وحدة الساحات”. ضمِنَ الفريق الحاكم إبقاءه محيّداً نتيجة تعاون دوائر استخبارية فيه بتمرير المعلومات عن وجود المواقع الإيرانية. فلم يتعدَّ القصف الإسرائيلي للأراضي السورية استهداف هذه المواقع وتلك التابعة لـ”الحزب” وسائر الميليشيات التابعة لطهران. لكنّ الجانب الإسرائيلي اعتبر، في الأشهر الثلاثة الأخيرة من الحرب على لبنان و”الحزب”، أنّ بشار الأسد يمارس لعبة مزدوجة بإجازته تمرير أسلحة لـ”الحزب”، وبعضها روسيّ الصنع.

لذلك تنسب بعض الروايات أسباب سيطرة فصائل المعارضة على كامل مدينة حلب إلى التلكّؤ الروسي في قصف تقدّم هذه الفصائل. تصرّ رواية هؤلاء على أنّ موسكو على علم مسبق بالدعم التركي لاندفاعة المعارضة العسكرية. وتكرّر ما تعتبره خلفيّات غضّ النظر الروسي عن عملية المعارضة العسكرية التي هي تركيّة بالتعريف السياسي النهائي، كالآتي:

بقيت سوريا خلال الأشهر الـ13 الماضية بمنأى عن حرب غزة نتيجة امتناع النظام عن الانخراط في “معركة وحدة الساحات”

اللّعبة المزدوجة للأسد مجدّداً

ما أغضب موسكو هو استمرار اللعبة المزدوجة التي يمارسها الأسد، والتي اشتكت منها تل أبيب: تمرير أسلحة بعضها روسيّ للحزب. وهو يفعل ذلك بموازاة ممارسته ما تسمّيه الحلقة الضيّقة المحيطة به سياسة “التضييق” على الوجود الإيراني في سوريا. يعتقد الأسد أنّ هذا التضييق، لا سيما أثناء حرب غزة، “تسليف” كافٍ لدول الغرب وإسرائيل. وهذا يسمح له بغضّ النظر عن تهريب أسلحة لـ”الحزب” في لبنان.
رفض الأسد إلحاح القيادة الروسية عليه إجراء مصالحة مع تركيا. فموسكو ترى في خطوة كهذه عاملاً مساعداً على حلّ سياسي للأزمة السورية. تتفوّق علاقة فلاديمير بوتين مع رجب طيب إردوغان على علاقته بالأسد. فتركيا متنفّس اقتصادي رئيسي لروسيا في ظلّ العقوبات الغربية عليها بسبب حرب أوكرانيا.
المقرّبون من دوائر القرار في موسكو لا يخفون انزعاجها من انسياق الأسد خلف النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان. يقولون إنّ التنافس مع طهران على التأثير في القرار وسائر المؤسّسات السورية احتدم في السنتين الأخيرتين في شكل واضح.
تنسب بعض الروايات أسباب سيطرة فصائل المعارضة على كامل مدينة حلب إلى التلكّؤ الروسي في قصف تقدّم هذه الفصائل

إصرار موسكو على طهران: الحلّ بدل الحرب

أصرت القيادة الروسية على طهران أن تسعى معها إلى الحل السياسي في سوريا، خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان. موسكو راقبت بقلق شديد مخاطر توسع الحرب نحو سوريا بسبب دعم إيران للحزب. فهذه المخاطر تجلت بالقصف الإسرائيلي المتواصل للمواقع الإيرانية وللحزب في دمشق وسائر المناطق. وهي تخشى تأثير انفلات الأمور نحو حرب شاملة، على دورها الإقليمي. المنطق الروسي يقوم على أنه بدلاً من استخدام الميدان السوري في الحرب على الجبهة اللبنانية يجب إعفاء سوريا من إقحامها بها. وهذا لا يتم إلا بالحل السياسي لأزمتها. لكن طهران لم تستجب لأنها مثل الأسد لا تنسجم أجندتها مع الحل السياسي وفقاً للقرار الدولي الرقم 2254. فقيام حكم انتقالي وفق نص القرار، يعني تغييراً في طبيعة النظام، يؤثّر على نفوذها في بلاد الشام.
بشار الأسد عاد من زيارته السرية إلى موسكو بعد ظهر السبت الماضي، ليعطي الأوامر للجيش أن يحضر لهجوم مضاد على فصائل المعارضة. مطلعون على نتائج زيارته أشاروا إلى أنّه زار موسكو مرّتين في ثلاثة أيام. الخميس الماضي في 28 تشرين الثاني، غداة بدء قوات المعارضة هجومها في الشمال. اكتفى بلقاء مستشار الرئيس فلاديمير بوتين، سيرغي شويغو. لم يقابل سيد الكرملين الذي كان خارج البلاد، وعاد في اليوم نفسه إلى دمشق. المصادر الواسعة الاطلاع قالت لـ”أساس” إنّه عاد فزارها السبت في 30 من الشهر نفسه، والتقى بوتين. وأوضحت هذه المصادر أنّه تبلغ مرة جديدة أن عليه أن يغيّر نهجه ويأخذ في الاعتبار توجهات موسكو التي ستحاول مساعدته في هذه الحال على مواجهة اندفاعة المعارضة المسلحة. والقيادة الروسية انضمت إلى الدول التي تطالبه بالابتعاد عن إيران وأذرعها.
قصف جوّي روسيّ رفعاً للعتب؟

تساءل مراقبون عن سبب إعلان موسكو قصف طيرانها الحربي لتقدم الفصائل المعارضة، الذي أدى إلى قتل 320 من مقاتلي هذه الفصائل، إذا كانت غضت النظر عن العملية العسكرية المدعومة من تركيا. جاء الجواب أن هذا حصل “رفعاً للعتب”، لأن التدخل الروسي جاء متأخراً أكثر من 3 أيام. ولفت مراقبون سوريون إلى أن موسكو تركّز قصفها على إدلب ومحيطها، منطقة نفوذ “هيئة تحرير الشام”. وبالتالي لا يشكّل استهدافها بفعل تصنيفها كتنظيم إرهابي أيّ مشكلة مع تركيا. لكنّها تتجنّب قصف مقاتلي المعارضة في حلب. وهو ما عزّز القناعة بأنّ ما أخذته المعارضة السورية لن يسترجعه النظام. وروسيا أعلنت أنها ستزود الجيش السوري بأسلحة وذخيرة خلال 72 ساعة، فيما الأمر لا يحتاج إلى كل هذا الوقت. وفي رأي أوساط سورية محايدة أن الجيش الروسي لا يمكنه أن يتمادى في القصف لأن طيرانه يحتاج إلى كميات من الذخيرة والصواريخ. وما يهمه أن يحتفظ بها لحربه مع أوكرانيا. فالمرحلة الراهنة دقيقة توجب الملاءمة بين الوضع الميداني الأوكراني وبين حوافز التسوية للحرب مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب. هذا فضلاً عن أن القصف الجوي الروسي تركز على محيط مدينة حماة للحؤول دون دخول قوات المعارضة إليها. فالأخيرة بقيت في ريف المدينة. بينما احتفظت بمواقعها داخل حلب. وموسكو التي سئمت من مماطلة الأسد في التناغم مع نصائحها لا تريد انهيار نظامه. بل هي تريده في خانتها في التفاوض على أوضاع المنطقة مع إدارة ترامب، على رغم أنها ضاقت ذرعاً من سلوكه.
أصرّت القيادة الروسية على طهران أن تسعى معها إلى الحلّ السياسي في سوريا، خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان

“هيئة تحرير الشّام” تتقصّد التّسامح؟

تلفت بعض الأوساط إلى أنّ اندفاع فصائل المعارضة المسلّحة اقترن مع تعديل في سلوكها خلال العمليات العسكرية:

على الرغم من تسريب بعض الفيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي عن عمليات انتقامية دموية قام بها بعض مقاتلي المعارضة ضدّ جنود سوريين، فإنّ عمليات الانتقام من قبل مسلّحي الفصائل المعارضة في القرى التي دخلتها في ريف حلب وفي المدينة لم ترقَ إلى مجازر جماعية. ولم يحصل ذلك مثلاً في قريتَي نبُّل والزهراء الشيعيّتين. بل إنّ مقاتليها تقصّدوا تقديم الخدمات للمواطنين في حلب، ونفّذوا تعليمات بعدم المسّ بالمؤسّسات العامّة والخاصّة، منعاً للسرقات والنهب.
فصائل المعارضة وحتى “هيئة تحرير الشام” تجنّبت الإكثار من رفع علمها الإسلامي ورفعت علم المعارضة السورية. واقترن ذلك مع إعلان زعيم “هيئة تحرير الشام” أبي محمد الجولاني أنّه أوصى أتباعه بالمدنيين في حلب “من كلّ الطوائف”، معتبراً أنّ “المدينة كانت وما زالت ملتقى للحضارات والثقافات، ولديها تاريخ طويل من التنوّع الثقافي والديني، وهي تاريخ وحاضر لكلّ السوريين”. وثمّة توجّه لتلميع صورة التنظيم.
الجانب الروسي لاحظ هذا السلوك، استناداً إلى تطمينات تلقّاها من الجانب التركي.
تلفت بعض الأوساط إلى أنّ اندفاع فصائل المعارضة المسلّحة اقترن مع تعديل في سلوكها خلال العمليات العسكرية

احتمال فتح جبهات أخرى أم التّفاوض؟

في وقت أعلن الرئيس السوري أن “الإرهاب لا يفهم إلا لغة القوة” وأخذ إعلامه يتحدث عن هجوم مضاد سيقوم به جيشه، تدعو الأوساط المطلعة على خلفيات عملية المعارضة العسكرية إلى انتظار مهلة الأيام المقبلة ليظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود. فالمفاوضات التي تخوضها إيران بعد زيارة وزير خارجيتها عبد الله عراقتشي لدمشق ثم تركيا إحدى محطات تحديد وجهة سير الأمور. ذلك أنّ اجتماعاً سيعقد الجمعة والسبت المقبلين في الدوحة يضمّ وزراء خارجية منصة أستانا، أي روسيا وتركيا وإيران. والملفت في هذا الاجتماع أنّ قطر دخلت على خطّ الأطر الدبلوماسية لإدارة الأزمة السورية. وبات معروفاً أن طهران تفضل تجنب القتال في سوريا، على الرغم من الأنباء عن استنفارها الميليشيات العراقية. كذلك التسريبات عن أن الحزب دفع بمزيد من المقاتلين إلى سوريا. وهذا ما جرى نفيه لاحقاً.

يعود خيار إيران تفضيل التفاوض إلى معطيات تفيد بأنّ الميليشيات الموالية لطهران في المناطق المحيطة بحلب انكفأت عن القتال، وبعضها أبلغ فصائل المعارضة بأنّه سيلازم المنازل.

اقتصرت مفاعيل العمليات العسكرية في الأيام الماضية على مناطق الشمال، وصولاً إلى ريف حماه، من دون دخولها. وثمّة توقّعات أن تشمل مناطق أخرى في حال فشل التفاوض على انخراط الأسد في الحلول السياسية. تشمل هذه التوقّعات أن تتحرّك المعارضة في الشمال، بعد حلب نحو مدينة حمص. كما تشمل تحريك قوّات المعارضة في الجنوب، وتحديداً من درعا نحو تخوم دمشق، إذا أخفق خيار التفاوض. وهذا يعني التمهيد لمحاصرة العاصمة وحكّامها.

لكنّ سيناريو استئناف المعارك بعد حلب يحمل في طيّاته مخاطر العودة إلى تقسيم سوريا مناطق نفوذ، إذا فشل التفاوض على تغليب الحلّ السياسي.