تتقاطع في حلب، ثاني أكبر مدن سوريا، والمسرح الأبرز في حربها الأهلية، حزمةٌ معقدة من الأزمات المحلية والإقليمية والدولية. نموذج مصغّر للشرق الأوسط الممزّق بين الحروب المذهبية والحروب بالوكالة والديناميكيات المتغيّرة بين القوى الكبرى.
إستعادتها المفاجئة من قبل التنظميات المسلحة التي تقودها “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة)، ليست أقل من نقطة تحوّل في الاقليم، إما نحو المزيد من الفوضى أو باتجاه إعادة تنظيم التحالفات ودوائر النفوذ.
إختارت أنقرة، بشكل مباشر أو غير مباشر، لحظة حساسة لإعادة ترتيب أوراقها في سوريا، في لحظة ارتباك “أعدقائها” في موسكو وطهران.
فما يُستأنف على أرض حلب هو فصل من فصول الاقتتال المذهبي، بين الفصائل المسلّحة ذات الأغلبية السُنّية المدعومة من تركيا، ضدّ نظام بشار الأسد المدعوم من إيران و”حزب الله” الشيعيين. وعليه لا يقتصر المشهد على التجاذب المذهبي داخل سوريا، بل يتعداها إلى توازن القوى بين تركيا السُنّية وإيران الشيعية، في لحظة نزيف النفوذ الشيعي الإقليمي، نتيجة الضربات التي تعرّضت لها إيران مؤخراً، وأدواتها، لا سيما “الحزب”.
إيران في موقف صعب
في المقابل، تجد إيران نفسها في موقف صعب في سوريا بعد خسارتها في المواجهة غير المباشرة مع إسرائيل في غزّة ولبنان. خياراتها المحدودة والمعقّدة، تتراوح بين إثنين:
1- تدخل إيراني مباشر أو تصعيد في دعمها للميليشيات الحليفة في سوريا، قد يؤدّي إلى مزيد من الضربات الإسرائيلية التي تستهدف مواقعها الاستراتيجية داخل إيران وشبكات وكلائها في الخارج، ما يضعف نفوذها العسكري والسياسي في المنطقة.
2- الصمت أو تقليص دورها في سوريا، ما سيُفسر كعلامة ضعف، ويؤدّي إلى فقدانها لأوراق الضغط الإقليمية أمام إسرائيل والدول العربية وتركيا وروسيا.
الدفع نحو تفاهمات تكتيكية
عليه، فإنّ أفضل ما يمكن أن تحققه طهران هو السعي لتعزيز وجودها، عبر دعم ميليشيات محلية وبطرق أقل علنية من السابق، أو الدفع نحو تفاهمات تكتيكية مع روسيا وتركيا لتخفيف التصعيد مؤقتاً، وهو ما سيفقدها موقع الندية مع موسكو وأنقرة.
إلى ذلك، تعكس الأحداث، صورة إرتباك القوة الروسية في الشرق الأوسط، التي تمّ إستعراضها بشكل حاسم، خلال العقد الفائت، في حلب نفسها، حين أعيدت السيطرة على المدينة نهاية العام 2016. فإنشغال روسيا بحربها في أوكرانيا يضعف قدرتها على التدخل الحاسم، لصالح نظام الأسد، لا سيما بعد سحب وحدات عسكرية رئيسية من سوريا وتقليص الطلعات الجوية التي كانت تشكل غطاءً رئيسياً لعمليات نظام الأسد.
عليه، تؤكّد تحوّلات المشهد في حلب أنّ انشغال روسيا في أوكرانيا لا يقتصر تأثيره على أوروبا فحسب، بل يمتد ليعيد تشكيل موازين القوى في سوريا والمنطقة ككل، ما يترك نظام الأسد أكثر هشاشة واعتماداً على حلفاء أقل قدرة على تقديم الدعم الفعّال.
عنصر ضاغط على ترامب
أمّا أميركياً، ولئن كان موقف الرئيس المنتخب دونالد ترامب هو الإنسحاب من سوريا، وتقليص عديد قواته، كجزء من سعيه لإطفاء الحرائق وخفض حدّة انخراط بلاده في حروب الشرق الأوسط، تبرز حلب بتطوراتها المفاجئة كعنصر ضاغط على أجندة البيت الأبيض. سيجد ترامب نفسه ملزماً بتعديل توجهاته الاستراتيجية، وإعادة التفكير في خطورة الاهمال الأميركي لملفات المنطقة وإستسهال التعالي على أزماتها.
أمام تعدّد هذه الحسابات المعقدة تضع تطورات حلب، جميع اللاعبين أمام سيناريوهات صعبة:
1- قد تؤدّي تطورات الميدان ما بعد سقوط المدينة إلى إشعال صراع إقليمي أوسع، بين أكثر من طرف، يمكن أن يسمح للفصائل المسلحة بالتقدم نحو مناطق أخرى أكثر إستراتيجية في سوريا، من بينها العاصمة دمشق.
فتركيا ستفاقم من تدخّلها لتعزيز نفوذها، والسعي لتقويض النفوذ الكردي، على حدودها، في حين أنّ إيران و”الحزب”، سيتورطان أكثر في وحول سوريا على نحو لا يمكنه إلّا أن يهدد الاستقرار في لبنان والعراق.
في المقابل، فإنّ إسرائيل ستكثف ضرباتها ضد الأهداف الإيرانية في سوريا والمراكمة على نتائج حربيْ غزة ولبنان لإضعاف حضور ايران في المشرق العربي برمته.
2- في سيناريو أقل حدّة، قد تنتهي المعركة في حلب إلى حالة من الجمود من دون حسم واضح، ما يجبر الأطراف على قبول توازن هش.
لن يكون مفاجئاً أن تسعى روسيا للتوسط بين النظام وبعض الفصائل المعارضة لضمان الاستقرار، بالتعاون والتنسيق مع تركيا، وعلى نحو يعطي ايران بعضاً من الاطمئنان لنفوذها المهدد. إنّ مثل هذا السيناريو سيحظى بالتأكيد بدعم واشنطن بعد دخول ترامب إلى البيت الأبيض، لا سيما في ضوء ما أشرنا اليه من رغبة أميركية في خفض تورطها في نزاعات المنطقة.
3- قد يكون سقوط حلب وما تلاه، محفزاً للاعبين جميعاً لإعادة ترتيب إقليمي في سوريا يحفظ حزمة واسعة من المصالح المتقاطعة.
الحاضنة العربيّة لاستقرار سوريا؟
بين تركيا وروسيا أسسٌ يمكن البناء عليها لترتيب المرحلة المقبلة، منها إتفاق سوتشي 2018 ثم اتفاق وقف إطلاق النار لعام 2020، المتعلق بإدلب، بغية تحقيق استقرار نسبي، طويل الأمد، يسمح بعودة النازحين من تركيا إلى سوريا، وإستئناف عمليات اعادة الإعمار، والضغط لتنشيط عمل اللجنة الدستورية الموكلة إقرار دستور جديد لسوريا، وإعادة تأسيس النظام السياسي فيها.
المختلف هذه المرّة، أنّ الحاضنة العربية لترتيبات الاستقرار في سوريا والتي عبّرت عنها بشكل خاص مواقف السعودية والإمارات والاردن، والمسارات السياسية للدول الثلاث حيال نظام الأسد، توفر بيئة إستراتيجية مختلفة، لحماية أي ترتيبات مقبلة في سوريا، لا سيما إذا ما نظر اليها على أنّ مؤداها هو المزيد من إضعاف النفوذ الايراني.