مجاعة أهل جبل لبنان في الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) ودور البطريرك الحويك والمطرانَين بولس عقل ويوسف دريان خلالها -بقلم السفير يوسف صدقه

  • شارك هذا الخبر
Saturday, November 30, 2024

مرّ جبل لبنان خلال الحرب العالمية الاولى بأكبر كارثة انسانية، نتجت عن الحصار العثماني وعوامل اخرى، وأدت الى موت الآلاف من الأهالي. ومن اللافت ان ابناء الجبل، وبخاصةٍ الموارنة منهم، لم يواظبوا كما واظبَ الأرمن على اقامة ذكرى سنوية لاستذكار المجاعة الكبرى التي تعرَضوا لها؛ وقد يكون ذلك لأسباب سياسية، ولعدم قبول بعض المكوِّنات اللبنانية بإدانة السلطنة العثمانية. هذا، وقد كان لأثر المجاعة الكبرى نتائج سياسية وكيانية على مستقبل لبنان حينذاك، فقد قدّم البطريرك الياس الحويك مذكرة الى مؤتمر الصلح بباريس مستلهمًا النتائج الكارثية والوجودية للمجاعة الكبرى. وقد تضمَّنت المذكرة عددًا من المطالب، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
الاعتراف باستقلال لبنان...
انزال العقوبات بالسلطات التركية والألمانية التي ارتكبت الفظائع في لبنان، وفرض العقوبات عليها، لكونهما نظَّمتا القتل المنهجي للمواطنين من طريق المجاعة، مما أدى الى موت ثلث سكان الجبل جوعًا، نتيجةً للحصار ومنع استيراد القمح من الدول المجاورة، بالإضافة الى انتشار الأوبئة.
لقد كان هذا موقفًا رسميًّا حول المجاعة سجله البطريرك الحويك امام الرئيس الفرنسي كليمنصو، ومثَّل موقف غالبية اللبنانيين حول تلك الكارثة. وقد أكد المتصرف أوهانس باشا في مذكراته (1913- 1915): "ان المجاعة كانت عملية مدبَّرة لإبادة سكان جبل لبنان".

وحاول بعض الكتَّاب المناصرين للأتراك نفيَ مسألة المجاعة حين اعتبروا ان الجراد الذي وصل الى لبنان في 13/4/1915 ورحل عنه في بداية 1916 كان السبب الرئيسي لها، علمًا ان المجاعة وصلت الى الجبل قبل وصول الجراد، وظهرت في اوائل حرب 1914، عندما أعلنت السلطنة العثمانية التعبئة العامة خلال شهر آب من ذلك العام. اما التدابير المتخذة من ولاة السلطنة فقد تمثلت بمنع استيراد القمح الى الجبل.
هذا، وقد أصدر جمال باشا امرًا بتاريخ 9/10/1916، يمنع بموجبه استيراد القمح الى جبل لبنان وبيروت، علمًا بأن الحصار البري الذي اتخذته السلطنة بدأ في شهر آب 1914، عندما أعلنت النفير العام، وأمرت بمصادرة القمح من الولايات لصالح الجيش. وكان سكان الجبل يستوردون المؤونة من البقاع وحوران. وطالب المتصرف أوهانس باشا حينذاك بتسهيل وصول القمح الى الجبل بسبب الظروف المأساوية في حينه، إلا ان جمال باشا رفض توسُّلاته. وغادر المتصرف أوهانس باشا جبل لبنان نهائيًّا بتاريخ 5/9/1915. وقد أكد في مذكراته ارتباط المجاعة بالحصار البري على نحوٍ مباشر، وعدم اتخاذ جمال باشا التدابير المناسبة للحدّ منها.

استمرّ الحصار البري مطبَّقًا حتى أواخر عام 1917عندما بدّل جمال باشا خطته وسمح بإدخال كميات قليلة من القمح الى الجبل، وذلك بعد الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة وفرنسا. وكانت السلطة العثمانية تسمح لعدد قليل من التجار باحتكار القمح وبيعه بأسعار خيالية؛ وكان القمح يخضع للغش حيث يضاف اليه التراب والزوان...، وكانت لجمال باشا حصةٌ من بيع الحبوب.

لم يكن الجراد، إذًا، السبب الرئيسي للمجاعة كما زعم العثمانيون، وتفاقمت المجاعة بعد تاريخ حصوله كما بيَّنَّا أعلاه. وأدت المجاعة، بطبيعة الحال، الى انتشار الامراض والاوبئة. ولم تكتفِ السلطة العثمانية بعملية تجويع أبناء الجبل، بل اتخذت عددًا من التدابير التعسفية زارعةً الرعب والمآسي في قلوب الناس، وذلك بعد تعيين علي منيف بك متصرفًا على جبل لبنان في 25/9/1915.
وبِذا، قضت السلطنة العثمانية على نظام جبل لبنان وامتيازاته واصبح الجبل تابعًا مباشرةً للسلطنة. وتأسس الديوان العرفي في عاليه، وراح يصدر الاحكام على اللبنانيين الاحرار بالسجن او النفي او الاعدام، وقد أُعدمت قافلةٌ من الشهداء في 20/8/1915 من كلِّ الطوائف اللبنانية.
هذا، دون ذكر السخرة (سفر برلك) التي تعرَّضَ لها أبناء الجبل (وكانوا سابقًا مَعفيِّين من الخدمة في الجيش العثماني)، ومُصادرة غلال الأرض وسائل النقل في ذلك الزمن (من الحيوانات وسواها) للضرورات العسكرية.

ومن النافل القول إن الحصار البحري الذي فرضه الحلفاء خلال الحرب الكونية على مرافئ السلطنة العثمانيَّة بتاريخ 28 آب 1915، ومنها المرافئ اللبنانية، أدى بدوره الى منع تصدير المنتجات اللبنانية الى اوروبا، ومنها الحرير؛ وكذلك منع الاستيراد من الخارج، ممَّا فاقمَ من وزر المجاعة.


آثار المجاعة
أفقدت المجاعةُ جبلَ لبنانَ، بالإضافة إلى الآثار المختلفة للحرب والحصار، ثلثَ سكانه، ما قُدِّرَ بـ 722،185 نفسًا تقريبًا، وقد قدّر الصليب الاحمر الاميركي عدد ضحايا المجاعة بـ 270 الف نسمة. وقد كانت لها تداعيات اجتماعية واخلاقية وانسانية على المجتمع اللبناني. كما ان الحصار البحري والمضايقات العثمانية لسكان الجبل، ساهمت في حملة التجويع المنظَّم، والتي شملت كل الطوائف وبخاصةٍ الموارنة. وكانت السلطنة العثمانية تنظر الى جبل لبنان كمحطة لتدخّل الدول الاجنبية ولا سيَّما منها فرنسا.
وقد حاولت السلطنة اخضاع اللبنانيين بالقوة والقهر بسبب نزعتهم الاستقلالية وسعيهم للتحرر من النير العثماني. ومما ساهم في التخفيف النسبي من آثار المجاعة، الدور الريادي الذي قام به البطريرك الحويك مع أمين سر البطريركية الاب بولس عقل، ودعم الاغتراب اللبناني واصدقاء لبنان في بلاد الانتشار، وبعض الدول المتعاطفة مع لبنان مثل فرنسا، واسبانيا، والنمسا، والولايات المتحدة.
ان تصرفات السلطنة الظالمة نتجت عن ممارسات "حزب الاتحاد والترقي" الذي حمل في فكره مبدأ الطورانيَّة الشوفينيَّة العنصريَّة، وسعى لفَرضه. وان هذا الفكر المتعصب والالغائي حدا الوزير أنور باشا للتصريح علنًا في ٢١ أيار ١٩١٦: "لقد قضينا على الأرمن بالحديد (السلاح) وسنقضي على اللبنانيين من خلال المجاعة".

قامت البطريركية المارونية وعلى رأسها البطريرك الحويك بجهود جبارة وأعمال بطولية للتخفيف من معاناة اللبنانيين في المجاعة. وقد وضعت البطريركية آلية للاتصال بالمغتربين والسلطات الفرنسيّة لتوزيع المساعدات على المحتاجين.


عملية الاتصال مع المغتربين
جرت عملية التواصل بين البطريركية المارونية والمغتريين اللبنانيين عبر أمين سر البطريركية الاب بولس عقل، وذلك لمواجهة الضائقة الاقتصادية الخانقة التي يواجهها اللبنانيون المقيمون عبر آليات محددة. وكان البطريرك الحويك قد أصدر تعميمًا تم توزيعه على الرعايا داخل لبنان وحاول إيصاله الى بلدان الانتشار؛ ونذكر من قراراته:

- "ان يبادر مطران الابرشية بالسرعة الممكنة الى طلب لوائح مفصلة، تشمل على عدد أسماء الفقراء في الابرشية العاجزين عن كسب عيشهم وذلك بواسطة كهنة الرعايا ومشايخ الصلح".
- "على المطارنة ان يسهروا على تنفيذ الطريقة التي يتم الاتفاق عليها وعلى توزيع الحنطة بدقة للفقراء ويشرف الاشراف الكامل على التوزيع".
- "على المطارنة والرؤساء العامين ورؤساء المدارس البطريركية ان يبذلوا الجهود في استدانة الأموال اللازمة لهذا المشروع الخيري، حتى يبقى جاريا العمل به الى ان تنتهي الازمة الشديدة الحاصلة الآن".

يتضح ان البطريرك الحويك ببعد نظره واستشرافه للخطر الداهم، قرر المواجهة من ضمن خطة مبرمجة وجنّد فيها كل العناصر المكونة للمؤسسة الكنسية، وقرر وضع امكانيات الاوقاف بتصرف الفقراء والمعوزين الذين تداهمهم المجاعة.

على صعيد آخر، فان اخبار الحصار البحري والبري على جبل لبنان وانقطاع مساعدات المغتربين عن الوصول الى اهاليهم في الوطن حملت النخب المهاجرة على استنفار جميع المغتربين، ومطالبتهم بتحمل مسؤولياتهم تجاه الأخطار الداهمة. وكان لنداءات البطريرك الحويك الاثر العظيم في تحريك النخب اللبنانية في الخارج ولا سيَّما في اوروبا والاميركيَّتَين.

دور المطرانين بولس عقل ويوسف دريان في نقل المساعدات
اتخذ الاب بولس عقل (المطران لاحقًا) مركزاً مؤقتًا له في دير مار عبدا هرهريا بجديدة غزير. وتم الاتفاق بعد اتصالات مكثفة مع السيد يوسف كرم على ان يتسلم نقطة البوار حيث يسلِّم المخابرات الفرنسية الاوراق والمستندات ويتسلَّم منها التحارير لكي يسلمها الى أصحابها، على ان يتولى بشاره البواري القيام بالتواصل والاتصالات مع البحرية الفرنسية الموجودة في جزيرة ارواد. وقد تأمن التواصل مع الفرنسيين بضمانة البطريرك الحويك عبر الاب بولس عقل.
تبدأ عملية التسليم من جزيرة ارواد حيث تنطلق الباخرة مع الاكياس المرسلة في اغلبيَّتها من المغتربات عبر المطران دريان الوكيل البطريركي في مصر، او من السلطات الفرنسية. وكانت الباخرة تتوقف مقابل البوار في منتصف الليل، عندها ينتقل البحَّارة وعلى رأسهم الياس البواري بزورق صغير الى الباخرة ويستلمون البريد الوارد من الكولونيل ترابو حاكم جزيرة ارواد وبعدها يسلمون البريد الى قائد الباخرة LABORIOU، وكان الخوري بولس عقل يوزع المساعدات الواردة من الخارج عبر شبكة من الاكليروس والعلمانيين وبعض مخاتير ومشايخ القرى والاعيان وبعض المرافقين من قريته وذلك لتصل الى اصحابها. وكان لا يستقر في مقر واحد بل ينتقل من منزله في شامات الى دير البنات ودير ميفوق ودير القطارة في جبيل، ومنها الى قنوبين والمحابس والمغاور والمناطق القريبة من البوار. وكان يتمتع بعقل امني استخباري وشجاعة نادرة لا يخاف الأهوال والاخطار.


آلية وصول المساعدات من الخارج
كانت الجمعيات تُرسلُ الاموال، وكذلك الأفراد، إلى المطران يوسف دريان في مصر الذي كان يرسلها بدوره مع الاسماء المرسلة إليهم الى الخوري بولس عقل في لبنان. وبالمقابل فإن الاهالي كانوا يرسلون عناوين انسبائهم في الخارج إلى المطران دريان لتحريضهم على ارسال المساعدات إليهم في الوطن. وكان جهاز المطران دريان يتحرك بحماسة بالاتجاهين بكفاءة لافتة.
ومن المؤكد ان السلطات الفرنسية قدمت المساعدات العينية والطبية والمالية الى اللبنانيين وعملت الى إيصالها الى الجبل بطرق متعددة.
لم تنحصر المساعدات بالمسيحيين فقد حوَّل البطريرك الحويك جزءَا منها الى المسلمين من سنة وشيعة ودروز. وقد اشاد المفكر الفرنسي بتوجه البطريرك الحويك وتوجيهاته للأب بولس عقل لتوزيع جزء من المساعدات الى المسلمين، وذلك تأكيدًا لنظرته الوطنية المتعالية عن الروح الفئوية.


قضاء الشوف تحت وطأة المجاعة
رغم الحالة المأساوية الناتجة عن الحصار العثماني، فإن أهالي الشوف لم يصلوا الى حالة الجوع القاتل، وان طال بعض الاهالي الفقراء حيث كانوا يؤمنون مادة القمح من البقاع وحوران.
وتواصل الموحدون الدروز مع ابناء جلدتهم في جبل الدروز. وكان للأمير شكيب ارسلان الذي تربطه صداقات سياسية مع اصحاب القرار العثماني، دور في تسهيل مرور الحنطة الى ابناء الشوف بمختلف طوائفه. على صعيد آخر فتحت الرهبانية المخلصية التابعة للروم الكاثوليك دير المخلص أبوابها للفقراء من الروم الكاثوليك وغيرهم .
شكل الفقراء الشريحة الكبرى من سكان الشوف ووفق الشهادات في تلك الفترة، فإن المجاعة لم تصل فيهم حد الموت مثل المناطق الاخرى في جبل لبنان.


خلاصة
في تاريخ مختلف الشعوب محطات مفصلية، كان لرجال عظام دور استثنائي في المحافظة على ديمومتها وضمان مستقبلها. لو عدنا في الذاكرة إلى الرجال الأبطال في الحرب الكونيَّة لكان البطريرك الياس الحويك والخوري بولس عقل، المطران في ما بعد، في طليعتهم.
كان لكلٍّ منهما دور بارز ومميز في مواجهة الصعاب وبذل التضحيات لتجنيب جبل لبنان مآسي المجاعة وتحدّي الحصار الذي فرضه الاتراك لتجويع سكانه وإهلاكهم.
تركِّز معظم المراجع التاريخية على دور البطريرك الحويك السياسي في نشأة لبنان الكبير، وتمرّ مرور الكرام على دوره الاجتماعي لمجابهة المجاعة بحيث وضع خطة منهجية لفتح الأديار والمؤسسات الكنسية، وتنظيم استقبال المساعدات المالية والعينية وتوزيعها على المحتاجين بالرغم من تهديدات السلطات التركية واستبداد جمال باشا كان الهمّ الأول للبطريرك الحويك والمطران عقل سلامة الجبل وأهله مهما كلف ذلك من تضحيات.
مثَّل المطران عقل دورًا رياديًّا وبطوليًّا في تأمين المساعدات وتوزيعها متجنِّبًا بطرق بوليسية وأسماء مستعارة الرقابة التركية الصارمة. كان يهزأ بالمخاطر فلا تثنيه الصعاب ولا يخشى الخطر. قاسى الأهوال بإخلاص لا محدود وجهاد لا يعرف الكلل.
جسَّد البطريرك الحويك والمطران عقل الالتزام بالقيم المسيحية والإنسانية، وكانا مثالاً للعنفوان الماروني الصامد بوجه الاستبداد والظلم. لقد أحيط البطريرك الحويك بالتكريم الذي يليق بعلو شأنه ودوره الوطني والكنسي. أما المطران بولس عقل فلم يلقَ شخصه التقدير المناسب لدوره البطولي في الحرب لمجابهة ظلم الأتراك ومآسي المجماعة. إنه جدير بأن يقام له حفل تكريم خاص من قبل أركان الطائفة المارونية الدينية والزمنية فيقيموا له تمثالاً يخلّد ذكراه، هو الذي اعتذر تواضعًا أن يقيم له رؤساء البلديات والمخاتير في بلاد جبيل والبترون ۱۹۱۹، فبقي طوال حياته لا يقبل بهذا التكريم.

تاريخنا غني بالأمثولات والعبر التي لو أخذنا بها لَجَنَّبنا وطننا العديد من الأخطار والمآسي. قدرُ أبناء لبنان أن يكونوا دائمًا في عين التحدّي لمواجهة الأخطار المهددة لكيانه. وقدرُ لبنان أن يبقى بالرغم من النكبات والمحن أمينًا لرسالته التاريخية ومتطلِّعًا بعزيمة أبنائه إلى غد مشرق ومستقبل واعد. وذلك يفترضُ حتمًا الإفادة من عبر التاريخ والتفاف السواعد.