إيران تتعظ… وتتراجع تكتيكياً- بقلم بديع يونس

  • شارك هذا الخبر
Wednesday, November 27, 2024

يتراءى للبعض أنّ رياح تغيير الأسلوب الإيراني بدأت تعصف في طهران مع السماح بوصول مسعود بزشكيان للرئاسة، ليتوطّد هذا النهج بعد فوز دونالد ترامب بولاية رئاسية جديدة وهيمنة حزبه الجمهوري على مقاعد غرفتَي الكونغرس (مجلس الشيوخ ومجلس النواب)، وتحرّك الإدارة الجديدة نحو التشدّد المحافظ بعد تعيين 13 مسؤولاً جديداً في مواقع أساسية، ثمانية منهم اشتهروا بتطرّفهم في تأييد إسرائيل.

في الموازاة، وبينما يشير الوضع السائد داخل إيران منذ سنوات، إلى واقع مأزوم ينعكس سلباً على فئات المجتمع كافّة، اضطرّ النظام في طهران إلى مراجعة سياساته الاقتصادية والاجتماعية وتبعات نهجه التوسّعي على الوضع الداخلي.



تبعات النّهج الإيرانيّ والتّمهيد للواقعيّة

في الفترة الأخيرة، حصلت عدّة وقائع لم تأتِ بالصدفة ولم تفهمها طهران قبل أن تُلدغ، بل كانت نتاجاً طبيعياً لما آلت إليه الأوضاع الداخلية الصعبة، والعزلة الخارجية الخانقة، وحصيلة ما زرعوه طوال 44 عاماً. ومن هذه الوقائع نعدّد التالي:

– اتفاق بكين الذي أعاد “الحرارة” للعلاقة بين طهران والسعودية كما دول الخليج عامّة، ومنها البحرين والكويت.

– إعادة التبادل الدبلوماسي بين الدول المتجاورة، وزيارات وزراء خارجية إيران الإقليمية (من عبد حسين أمير عبد اللهيان حتى عباس عراقتشي).

– الكلام المستجدّ حول إقامة علاقات “حسن جوار” مع دول المنطقة بعدما سادت لعقود طويلة لغة عدائية نافرة.

– استبدال إغلاق الخليج العربي ومضيق هرمز بدعوة السعودية إلى حضور مناورات بحريّة للجيش الإيراني، والاستعاضة عن الرغبة بالسيطرة على مياه الخليج العربي بطرح رقابة مشتركة بين دوله المتشاطئة.

– البحث في كيفية تشجيع الاستثمارات الخليجية في إيران وفتح الأبواب التشريعية لحمايتها.

– قراءة طهران المتمعّنة لما حصل من نتائج في قطاع غزة، وإزالة حكم حماس والجهاد.

توقّفت طهران عند حقيقة ما أعلنه يسرائيل كاتس من أنّ “إيران أكثر عرضة من أيّ وقت مضى لضربات على منشآتها النووية”

– استخلاص إيران العبر من عدم فعّالية إقفال باب المندب والتأثير على الملاحة البحرية والتجارة الدولية، لا سيما بعد الغارات العنيفة على الحديدة وصنعاء وصعدة. كما لمست ضعف قدرة الصواريخ الحوثية في التأثير الاستراتيجي، سواء في البحر الأحمر أو في تغيير قواعد اللعبة مع تل أبيب.

– رفض الصين تغيير سياستها، وتفضيلها لعب دور المحايد.

– ظهور حاجة إيران أكثر فأكثر إلى روسيا في مجلس الأمن والمنظّمات الدولية من جهة، كما حاجة طهران إلى موسكو لاستيراد أسلحة، لا سيما طائرات سوخوي وغيرها وصواريخ أرض – جو، فيما لمست إيران عدم قدرة حكومتها على تسديد الديون التي تطالب بها موسكو، وامتناع الأخيرة عن إعادة كمّيات اليورانيوم المخصّب التي تسلّمتها بموجب الاتفاق النووي.

– اضطرار إيران المستمرّ إلى الاستعانة بالوجود الروسي في سوريا لحماية وجودها، بعد ابتعاد النظام عمّا سمّته طهران “وحدة الساحات” وإظهاره المزيد من الخطوات التي تبعده عن الانخراط في الحرب القائمة.

من جرّاء هذه اللوحة البانوراميّة المحيطة بالواقع الداخلي والإقليمي والدولي التي تجيد طهران قراءتها بتأنٍّ، والعمل بما تستخلصه لتحقيق مصالحها الاستراتيجية، خطت طهران خطوات غير معهودة.

خطوات إيرانيّة وصفحة جديدة مقبلة؟

قرأت طهران المتغيّرات. قلبت الصفحة، لكنّها قد لا ترمي الدفتر. لا يمكن الجزم بأنّ نظامها قد تغيّر إلى غير رجعة، لكن من شبه المؤكّد أنّها ستكتب أسطراً جديدة تواكب فيها المرحلة إلى حين. ومنها نعدّد:

– رحّبت بانتخاب دونالد ترامب، والتقت مع المعارضة الإيرانية في الخارج على تجيير بعض الأصوات الانتخابية له.

– على الرغم من نفي طهران رسمياً، لكن لا دخان من دون نار، وقد يكون فعلاً إيلون ماسك قد التقى السفير الإيراني لدى الأمم المتحدة أمير سعيد إيرفاني وبحثا “تخفيف التوتّر” مسبقاً مع الإدارة الجديدة كما نقلت “نيويورك تايمز”، والتدرّج في انفتاح طهران على مسار دبلوماسي مع واشنطن. ووفق الصحيفة “تمحور اللقاء حول كيفية وقف طهران دعمها للجماعات المناهضة لإسرائيل في أنحاء الشرق الأوسط”.

قرأت طهران المتغيّرات. قلبت الصفحة، لكنّها قد لا ترمي الدفتر. لا يمكن الجزم بأنّ نظامها قد تغيّر إلى غير رجعة

– حرص الرئيس بزشكيان على القول بعد أيام من فوز ترامب: “سيتعيّن علينا التعامل مع الولايات المتحدة على الساحتين الإقليمية والدولية، ويتعيّن علينا أن نتعامل مع أصدقائنا بكرم وأن نتعامل مع أعدائنا بصبر”. وأتت هذه التصريحات في أعقاب تصريحات سابقة في نيويورك غازل فيها الولايات المتحدة، عملاً بما خطّه المرشد خامنئي من تراجع عن “الصبر الاستراتيجي” إلى “التراجع التكتيكي” لتحفظ إيران رأس نظامها.

– صرّح بزشكيان بـ”رغبة بلاده في إزالة الغموض والشكوك حول برنامج إيران النووي”، وأكملت إيران نهجها بدعوة رافاييل غروسي مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرّية إلى إيران، وفتحت له المجال لزيارة منشأتَي فوردو ونطنز. كما تخلّت عن اتّهام غروسي وفريق عمل الوكالة بـ”التجسّس”.

– عادت إيران للتعاون مع الدول العربية، فحضرت القمّة العربية – الإسلامية في السعودية التي أعلن بيانها الختامي استمرار مطالبة هذه الدول بـ”حلّ الدولتين”. وبتأييدها للمقرّرات، تكون طهران قد تراجعت عن رفضها لـ”حلّ الدولتين”، وأيّدت للمرّة الثانية بعد القمّة الاستثنائية في تشرين الثاني 2023 السقف العربي المتمثّل في حلّ الدولتين الذي أُقِرّ بقمّة بيروت.

– نظّمت طهران تراجعها وتخلّيها عمّا تولّاه كلّ من عراقتشي ومحمد باقر قاليباف من رفض لوقف النار في لبنان وربطه بوقف النار في غزة، من خلال زيارة علي لاريجاني بيروت وموافقته على عدم ربط لبنان بغزّة.

– دفع الواقع الميداني على الأرض وواقع “الحزب” الحسّاس وضرورة الحفاظ عليه وما بقي من قوّته، طهران للتجاوب مع الورقة الأميركية التي أرسلها آموس هوكستين.

اضطرار إيران المستمرّ إلى الاستعانة بالوجود الروسي في سوريا لحماية وجودها، بعد ابتعاد النظام عمّا سمّته طهران “وحدة الساحات”

أخيراً وليس آخراً… النووي

يبقى الدافع الأهمّ والأساسي لقبول طهران بهذا التراجع هو ما أظهرته الأقمار الاصطناعية من دمار في منشأة تالفان 2 النووية السرّية في بارشين وفي خلّاطات الوقود الصلب المستعمل بالصواريخ البالستية التي كانت أحد أهداف الهجوم الإسرائيلي الأخير، وأثر تدميرهما على تطوير البرنامج النووي الإيراني، فتوقّفت طهران عند حقيقة ما أعلنه يسرائيل كاتس من أنّ “إيران أكثر عرضة من أيّ وقت مضى لضربات على منشآتها النووية”.



بالخلاصة، يبدو أنّ “التراجع التكتيكي” الذي تحدّث عنه خامنئي غير محصور بحرب غزة، بل بمجموعة وقائع استتبعت سلسلة خطوات تمهّد للعقلانية والبراغماتية جعلت إيران تفتح صفحة جديدة في دفترها وتخطّ سطورها بما يتناسب مع المرحلة، مع العلم أنّ هذا النظام قد يفتح صفحات جديدة لكنّه قد يعود لصفحات سابقة كلّما سنحت الفرصة. وحتى ذلك الحين، سيكون التراجع الإيراني سيّد المرحلة مع سيّد البيت الأبيض الجديد القديم، ولو إلى حين.