هوكشتاين فاجأ بري: أعرف أين تختبئون!- بقلم أنطوني جعجع

  • شارك هذا الخبر
Saturday, October 26, 2024

في عين التينة لم يكن الرئيس نبيه بري رجل دولة ولا كان الموفد الأميركي آموس هوكشتاين رجلاً ديبلوماسياً، بل كان الأول رجلاً حزبياً يقدم إنقاذ بيئته على إنقاذ وطنه، وكان الثاني رسولاً فجاً يحاول تحذيره من اللعب بالنار في حرب يخوضها مجنون في تل أبيب يقدم أمن بلاده على كل الخطوط الحمر الأميركية والأعراف الدولية في العالم.

هذا هو الانطباع الذي تسرّب من المساعي التي بذلها هوكشتاين تحت النار في بيروت ليخرج من دارة بري باقتناع شبه حاسم بأن الثنائي الشيعي يعيش خارج الواقع متحاشياً الاقرار بأن مغامرة “الثامن من أكتوبر” نقلته من القمة الى الحضيض، وأن سياسة “الثعلبة” التي يمارسها بالتنسيق مع طهران هي أقرب الى “الجهاد العبثي” منه الى أي انفراج مرتقب يمكن أن يعيد عقارب الساعة الى الوراء.

وكشفت مصادر قريبة من لقاء عين التينة، أن هوكشتاين حمل الى بري واحداً من خيارين: اما مواصلة قتال استنزافي انتحاري لا يملك فرصة الانتصار فيه، واما القبول بمخارج أميركية تقضي أولاً بالتزام القرار ١٧٠١ بكل تفاصيله من دون زيادة أو نقصان وتأمين الآلية المناسبة لتطبيقه من دون التفافات أو مواربات بحيث يكون أقرب الى تطبيع غير معلن أكثر منه هدنة ملتبسة، والدعوة الى انتخاب رئيس للجمهورية من دون عراقيل أو شروط مسبقة.

وأضافت أن بري الذي أدرك أنه لا يتحدث الى “الصديق راموس” بل الى “راموس الجديد” حاول أن يقدم وقف اطلاق النار على أي أمر آخر، سواء كان تطبيق القرارات الدولية أو تسهيل الانتخابات الرئاسية، متذرعاً بأن “حزب الله” لن يخوض في أي حل أو مخرج تحت النار، وأن نوابه لن يتمكنوا لأسباب أمنية من المشاركة في أعمال البرلمان، ما يعني الحاجة الى وقف القتال ولو موقتاً افساحاً في المجال أمام الحلول الهادئة والمخارج التوافقية .

وهنا رد هوكشتاين بقليل من الحدة مؤكداً أن بلاده تتطلع الى وقف دائم لاطلاق النار ينهي أسباب الحرب نهائياً بين لبنان واسرائيل، كاشفاً أمام مضيفه أنه يعرف أن نواب “حزب الله” يقيمون في مكان آمن وأنهم يستطيعون الوصول الى مجلس النواب بسهولة وأمان.

وعندما نفى بري هذا الأمر، خاطبه هوكشتاين غاضباً: هل تريد أن أكشف أماكنهم؟

هوكشتاين الذي يتردد أنه نقل الى لبنان آخر محاولة أميركية لمنع التمادي العسكري الاسرائيلي في نهش ما بقي من لبنان والشيعة معاً، خرج بانطباع يفيد بأن القوة وحدها يمكن أن تحسم ذلك، وأن بري ربما يكون واحداً من ثلاثة أمور: الأول أنه رئيس ميليشيا غير قادر على صنع القرارات والحكم خارج قوة السلاح، والثاني أنه مستفيد من سقوط “حزب الله” الذي قطع عليه أمرة الشارع الشيعي بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان، والثالث أنه واقع تحت تهديد مباشر من ايران التي تتخوف من ثعلباته من جهة، ومن مدى تماهيه مع الرئيس بشار الأسد الذي يخوض في سوريا حملة انقضاض على رجال ايران وترساناتهم.

وليس من باب المصادفة أن يلتقي هوكشتاين قائد الجيش العماد جوزيف عون في خطوة أشارت الى أمرين الأول تأييد أميركي لامكان وصوله الى الرئاسة الأولى، والثاني الوقوف على حاجة الجيش من السلاح الذي يمكنه من تكريس الهدنة على الحدود الجنوبية، ومن انتزاع موقعه الطبيعي من سطوة “حزب الله”، ومن الامساك بالأمن على كل الأراضي اللبنانية وخصوصاً الحدود المشتركة مع سوريا شمالاً وشرقاً وبحراً.

وليس من قبيل المصادفة أيضاً، أن تشعل اسرائيل جبهة بيروت فور خروج الموفد الأميركي من بيروت وذلك بعد تلقيها موقف بري، وأن تنطلق تهديدات تطاول مصالح بري في لبنان والخارج، اضافة الى حملة في أميركا يقودها السيناتور اللبناني الأصل داريل عيسى داعية الى فرض عقوبات على الرجل رداً على العراقيل التي يضعها أمام استحقاق الرئاسة الأولى وأمام تطبيق القرارات الدولية ذات الصلة.

والواقع أن ادارة الرئيس جو بايدن التي كانت تسعى الى انجاز سياسي في جنوب لبنان قبل أسبوعين من الانتخابات الرئاسية، تشعر بالغضب حيال موقف بري، وكذلك وزير الخارجية الأميركية أنطوني بلينكن الذي أمضى وقته في تل أبيب على وقع الصواريخ التي أطلقها “حزب الله” نحو الأراضي الاسرائيلية، وهو ما يفسر حدة القصف التدميري الذي طاول مدينة صور المحسوبة في معظمها على حركة “أمل”، وزيادة الضغوط النفسية على الثنائي الشيعي من خلال التلويح باقتطاع منطقة رمادية من الجنوب ووضعها تحت سلطة قوات متعددة الجنسيات وتحت رقابة اسرائيلية لصيقة .

وسط هذه الأجواء رجحت مصادر قريبة من عين التينة أن بري ربما يحاول شراء أكبر قدر من الوقت في انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية في أميركا، وحجم الضربة الاسرائيلية المرتقبة ضد ايران ليبني على الشيء مقتضاه، مشيرة الى أن حجم هذه الضربة سواء كانت محدودة أو ضخمة ربما تفتح الباب أمام تسوية ما توفر على الثنائي الشيعي ما قد يفقده في الميدان من خسائر بشرية ومادية ومعنوية وشعبية وسياسية.

وأضافت أن موقف النائب جبران باسيل السلبي من ترئيس العماد جوزيف عون قدم خدمة ثمينة الى بري الذي بات الآن أكثر تصلباً حيال هذا الخيار، وأن تقاعس المعارضة عن التقاط الفرصة لفتح البرلمان وانتخاب رئيس للجمهورية منح الثنائي الشيعي وايران وقتاً اضافياً لترتيب الأمور وتأخير وقف اطلاق النار على أمل كسب انجازات عسكرية على الأرض وفي عمق اسرائيل.

وسط هذا المشهد، يكون رئيس البرلمان اللبناني قد تمسك جيداً بمفتاح المجلس، ويكون بصفته رئيس حركة “أمل” قد تمسك بالسلاح من خلال محاولات تحييد القرار ١٥٥٩، لكن هذا الأمر سيف ذو حدين، في وقت يجهل بري أو يتجاهل أن حركة “حماس” بعد مقتل يحيى السنوار باتت أقرب الى قبول وقف اطلاق النار وابرام صفقة تبادل أسرى مع تل أبيب، وأن بلينكن نفض يديه من دماء الممانعين ورفع يديه استسلاماً أمام عناد بنيامين نتنياهو الذي لا يخوض حرب نقاط مع ايران وحلفائها بل حرب الضربات القاضية المدعومة من أميركا وأوروبا ومعظم العرب، تماماً كما حدث في غزة وما قد يحدث في لبنان ما دام ممانع واحد قادراً على اطلاق طلقة واحدة على اسرائيل.

وقد يكون في هذا الاستنتاج الكثير من المبالغة، لكن الواقع على الأرض يؤشر الى أن إسرائيل المتفلتة من أي حس انساني أو عرف دولي، لم تبدأ حربها على “حزب الله” كي تنهيها بشروطه، ولن تتوانى عن قتل بري سياسياً بعدما قتلت حسن نصر الله جسدياً اذا رأت ذلك ضرورياً، معتبرةً أنها لا تملك منذ انسحابها من لبنان في العام ٢٠٠٠ حلفاء أو أصدقاء ولا ترى فيه أبرياء أو حكماء، بل عدو تقاتله على الجبهات وتطارده الى حيث يختبىئ سواء تحت الأرض أو بين الأطفال والنساء والشيوخ.. وحتى في محافل الأنبياء والقديسين.


موقع "لبنان الكبير"