أكتبُ بقشّةٍ يابسةٍ في رماد المِذْوَد النص الماسي في عيد الميلاد- بروفسور نسيم الخوري
شارك هذا الخبر
Monday, December 26, 2022
كتب بروفسور نسيم الخوري:
أتساءل عندما نقول أو نكتب "بيت لحم": كيف يرتسم هذا المكان المُقدّس في أذهاننا أو أمام حبرنا بعد مضي 22 قرناّ إلاّ ستّة أيام على رماد المذود؟ سؤال أطرحه على الدنيا ليلة ذكرى ميلاد المسيح حيث يستقبلها المؤمنون بمسابحهم الطويلة ، وفي زوايا البيوت ينتظر الأطفال "بابا نويل" كي يقفز من فوهة المواقد حاملاً الهدايا المزركشة لتبادل البشرية المرتدية الثياب الحمراء، لكنّ المداخن تنطفيء ولا يصل إلاّ في الخيال البشري. يصبح الأطفال نصف نيام، فينقلونهم أهلهم الى أسرّتهم يحلمون به، وقد دخل خلسةً بثيابه الحمراء ليصفّ الهدايا الملفوفة تحت الشجرة ويمضي. يُستهلك الليل إحتفالات وإبتهالات على الشاشات وبالصور والأفلام واليوتوبيهات التي لا تنتهي لطفل يولد في مذودٍ تبعث فيه خوار البقر الدفء في بيت لحم أعني في فلسطين، وذلك قبل الكلام المعاصر عن مرض جنون البقر والكورونا والجراثيم المتنوعة بألفي سنة. يتآكل هناك المكان ويُقضم بالذهن البشري والوطني والسياسي والكوني ويختفي المولود. ويتحوّل المكان الموقد وكأنه يقترب من النشيد العام، ويتحوّل الفلسطينيون المشرّدون مجدداً في المخيمات والأرض الى تمضية أعيادهم ونصب أشجارهم في الدمعة والجرح الذين لا مكان أو أصداء لهما أيضاً. ويتحوّل العجز اللبناني والعربي والعالمي المقيت الى الفصاحة والإنقسام حول إستضافتهم أو إعادتهم ووضع العراقيل والشروط والقوانين الناظمة لتشريدهم. هم يسبقون الحبر والفكر والعيد الذي خرج من مكانهم أساساً فانتشر ودخل بيوت المسيحيين في العالم الشرقي والغربي، وتجاوزها كلّها ليصبح عيداً له صفات المغالاة في الإجتماعية. المفارقة الغريبة أنّ الزوايا التي فيها تنتصب أشجار الصنوبر الطبيعية والصناعية وتعلّق فوقها الكرات الملوّنة في العواصم والجادات والمدن والقصور والخيم، يولد تحتها إبن مريم فوق حفنةٍ من التين ، قد تبقى زوايا مقدّسة لفترة شهر أو أكثر بقليل ولربّما تبقى زوايا لها صفات محببة من ساكني الأمكنة المتنوعة لزمنٍ طويل بصل إلى عيد الغطاس. أنا أبحث هذه الليلةعن تقديس المكان،مع وعيي بأن الأمكنة تختصّ بكلّ مجموعة في الأرض تختار حيّزاً مقدّساً له مناظره ومقاماته وطقوسه منذ التفكير بالصخرة المقدّسة التي استخدمها يعقوب وسادة، والتي يزعم اليهود أنّ الملك سليمان قد شيّد فوقها بعد داوود أو دافيد الهيكل الأوّل أي في المكان الذي حدّده له أبوه على جبل الموريّا وحاول إبراهيم التضحية فيه بإبنه إسحاق. هذا المكان العالمي المقدس قد يخبّيء حرباً عالمية ثالثة. يذكّرنا هذا كلّه بكلمة الله عندما قال لموسى: "لا تقترب من هنا. إخلع نعليك لأنّ المكان أرض مقدّسة" التي إستقرّت في التاريخ اليهودي المعصور نواحًا أمام الجدار الذي يرتدي فيه اليهود وزعماء العالم الغربي القلنسوة ويتأوهون دفاعاً عن المكان السياسي العالمي المقدّس ويعنون به "إسرائيل". هذا مكان غلبت فيه السياسة مضامين القداسة. هناك فروقات طويلة بين النصوص والأمكنة أو الأشياء الثابتة على اعتبار أنّ القدّيس يمحو الأمكنة ولا مكان له سوى الأرض كلّها بينما المقدّس يسوّى ويرتّب ويظهر في الأمكنة كلّها التي يحددها البشر. صحيح أن الطفل الناصري ولد في مذود فلسطيني، لكنّ الكنائس عمّت الأرض والأذهان والسلوك بالمعنى الإجتماعي والسياسي للصراعات السياسية وطموحات الشعوب والدول. وصرنا نجد الكاثوليك مسمّرين يحجّون نحو مغارة "سانت لورد"، والبروتستانت يخرجون من الأمكنة كلّها نحو المكان السياسي المحصور ب"مقبرة غيتسبرغ"، وبما يرضي اليهود ويطمح الى العالم، تماماً كما نجد المحاربين القدامى يتطلّعون الى أقواس النصر وقبور الجنود المجهولين والشعلات التي لا تنطفيء منذ الحربين العالميتين اللتين أورثتا 23 مليون قتيل في عبثية لم تعرف أسبابها ونتائجها حتّى الآن، في الوقت الذي يحنّ فيه السوفيات الى قبر لينين بعدما تحوّلوا بعد نهاية الشيوعية الى الكنائس الصغيرة ومجد القبب الأرتوذكسية متتبّعين بذلك خطى الروس في دمج السياسة بالدين بحثاَ عن تجديد عظمة القياصرة. صحيح أيضاً أنّ الكعبة أو الحجر الأسود المكعّب الملفوف بقماشٍ أسود مطرّز والذي نزل على مكّة من السماء يرتفع 15 متراً، وله الحق بالطوفان، وإذ يطوف حوله الحجّاج المسلمون، فإنّهم يسعون بدورهم جاهدين في الأرض بالمعنى الديني والسياسي والقيمي حاملين تسليم أمورهم لله مباركاً لصحواتهم حيث يزهو المكان في الأرض كلّها عند فلش السجادة والتوجّه نحو القبلة والركوع فالصلاة. وأعتقد أنّ قلّةً من المسلمين يتذكّرون أنّ أنامل النساء القبطيات في مصر كنّ يطرزن الثوب الأسود الجميل الذي يلفّ به الحجر الأسود، نحقيقاً بعظمة الإرتقاء بين المسيحيّة والإسلام في الشرق الأوسط. يتحاشر المؤمنون الوارثون لكلمات الله التوحيدية الثلاثة حول الأرض كلّها بالمعنى الديني الملطّخ بالسياسي وهم يلمسون صخرةّ أو ضريحاَ أو يمارسون طقوساً وأناشيد معينة أو يقبّلون صوراً وأيقونات، لكنه تحاشر يتّخذ مداه السياسي أكثر في التلاحم الإجتماعي لطرد الظلم والقهر والغلبة والعدالة بين كلمةٍ وأخرى. وعندما تتلاحم رئات المؤمنين وأنفاسهم ونظراتهم في أمكنة تجمّعهم للصلاة شفاهاً أو غناءً أو حجّاً أو إجتماعاً أو إحتفالاً فإنّما يخرجون من فردانيتهم وسيّئاتهم الذاتية الى قوّة المجموعة النقيّة، لكنّ الصمت الأبلغ أو العجز المكابر يبقى ممثّلاً للموسيقى الإنسانية الحاملة أصوات الفقراء والمحتاجين والبؤساء والمعذّبين والمكسورين والمشرّدين في الأرض وهم كثر في ديار العرب والعالم. تتعاظم الأمكنة المشتتة في مطّ مساحاتها، فتصبح ناطحات السحاب أوتنافس الأبراج بين الأمم موضة العصر، بقببها المذهّبة، أو القصور الرئاسيّة أو البلدية تمجّد السلطات التي تأتي من خارج فتتأسّس على شيءٍ آخر يعزّز السلطات، ليحضر الفرعون مجدّداً خائفاً على مجد الإهرامات، ويمكث الإمبراطور الصيني إبناً للسماء في القارة الزاحفة نحو الأرض كلّها، ويخرج الأمراء نحو الملوكية، وكلّ هذا يعيدنا الى الأسطورة الفارسية التي تقول بأنّ الشجرة الأولى كانت تظلّل تنيناً عند جذعها عندما كان عصفور السعادة يضع بيضة الحياة فوق غصنها الأعلى. هذه البيضة المقدّسة المطلّة على الدنيا تشابه اليمامة أو تذكّرني بها عندما تطير عالياً لتقف فوق قبب أوروبا وأميركا التي لا نصل إليها إلاّ بالمصاعد الهائلة السرعة، وهي بهذا لا تشابه رمزيا إلاّ النجمة الذهبية التي يضعها المسيحيون فوق الغصن الأعلى لشجرة الميلاد في زوايا بيوتهم ووسط ساحات مدنهم. آلت تلك الحضارة في التعالي الإنساني والدولي الى السقوط حيث باتوا يشتمون هناك وهنا كلّ شيء. يكتبون فوق صور طفل المذود ما شاءت غرائزهم من صور قبيحة وبأحمر شفاه، ويجدّفون حتى تضجر ألسنتهم ومخيلاتهم، ويحرقون الأعلام و"يمخطون" ربّما بها باسم الحريّة والديمقراطية وتحديداً في وطني لبنان الذي لربّما نسي قرع الأبواب بين الكلمات التوحيدية الثلاثة. يبقى السؤال: من يجرؤ على المساس أو التفوّه بالمجازر المستنسخة التي لا طاقات لفهمها وتبريرها؟ أضاع العالم نجمته التي كانت تدخله الى عليائه، لأنّ الإنسان المعاصر ما عاد يدخل في جلده بقدر لهاثه نحو الغابات الدولية الموحشة باحثاً عن مصالحه وعلفه وعلف أزلامه ولو كانت في سجون شعبه أو في الكهوف أو حتى في المذود.