بالأرقام: مالية بلدية بيروت... تاريخ من الهدر والفساد - بقلم جاد هاني
شارك هذا الخبر
Saturday, May 17, 2025
اليوم، وعشية الاستحقاق الانتخابيّ البلدي، تقف العاصمة بيروت أمام مأزق وجودي، فبين مطالب المناصفة (أي المحاصصة المقنَّعة) ووعود الإصلاح والحوكمة، لم تتطرّق إلا قلّة قليلة من الطروحات إلى العطب الأساسي في إدارة هذه البلدية منذ سنوات وحتى الآن، وهو الهدر والفساد الموصوف اللذان حوّلا بلدية بيروت التي كانت أغنى بلديات لبنان بفضل مداخيلها وودائعها في مصرف لبنان، إلى حافة الإفلاس.
تُعدّ بلدية بيروت إحدى أكبر بلديات لبنان من حيث الموارد المالية والإنفاق، وتقوم ماليتها أساسًا على موارد محلية وتحويلات مركزية. تشمل مصادر دخلها الرسوم والضرائب البلدية التي تُجبى مباشرة من المواطنين (كالرسم على القيمة التأجيرية للعقارات، ورخص البناء، ورسوم الإعلانات والمحالّ، ومخالفات السير وغيرها)، إضافةً إلى الرسوم التي تجبيها الدولة لمصلحة جميع البلديات وتوزّعها عبر الصندوق البلدي المستقلّ.
أمّا في ما يخصّ آلية صرف الموازنة، فتخضع بلدية بيروت، كسائر البلديات، لقانون المحاسبة العمومية وللقوانين الخاصة بالإدارة المحلية. ويُفترض بالإنفاق البلدي أن يتمّ وفق موازنة سنوية يقرّها المجلس البلدي وتُصدِّقها السلطات الوصائية (وزارة الداخلية والبلديات والمحافظ) قبل تنفيذها. وتشمل الموازنة اعتماداتٍ للنفقات الجارية (رواتب الموظفين والأجور والتشغيل) وللنفقات الإنمائية (مشاريع البنى التحتية والخدمات). كما يُلزم القانونُ البلديةَ باحترام الأصول المالية المرعيّة في عقد النفقة وصرفها، بما في ذلك إجراء مناقصات عمومية أو استدراج عروض للمشتريات والمشاريع الكبرى، وتأمين الرقابة المسبقة لديوان المحاسبة على العقود التي تتجاوز قيمة معينة (في البلديات الكبرى كبلدية بيروت كان الحدّ خمسمئة مليون ليرة).
تضخيم الموازنة وغياب الشفافية مع الأزمات المالية والاقتصادية التي عصفت بلبنان منذ عام 2019، شهدت موازنة بلدية بيروت تضخّمًا كبيرًا بالليرة اللبنانية، لتبلغ عتبة المليارات. فعلى سبيل المثال، بلغت موازنة البلدية لعام 2022 نحو 278 مليار ليرة، وقفزت في موازنة 2024 إلى ما يربو على ثلاثة آلاف مليار ليرة. ويعزى هذا الارتفاع الاستثنائي أساسًا إلى تعديل قيم الضرائب والرسوم البلدية بعد انهيار سعر الصرف، ولا سيّما مضاعفة القيم التأجيرية التي تحتسب على أساسها الضريبة السنوية على العقارات ما بين عشرة أضعاف وعشرين ضعفًا. وبموجب هذا التعديل التشريعي (المادة 38 من موازنة 2024) ارتفعت عائدات بيروت بشكل ملموس، إلا أنّ هذا التضخّم المالي لم يُقابَل بشفافية في إدارة الأموال العامة، بل على العكس.
ورغم الزيادة الكبيرة في الإيرادات المحصّلة، امتنعت بلدية بيروت عن نشر تفاصيل موازنة العام الجاري وكيفية توزيع الإنفاق ضمنها. فقد أُقرّت موازنة 2024 على عجل في آذار، من دون إعداد قطع حساب عن السنوات السابقة، في استمرار لنهج تغييب المحاسبة الذي يمنع التحقّق من كيفية إنفاق الأموال العامة. ويمثّل هذا التعتيم المالي جزءًا من أزمة الشفافية في بلدية بيروت، حيث ظلّت القرارات المالية تُتَّخذ خلف أبواب مغلقة من دون إشراك للرأي العام أو حتى للمجلس البلدي بالصورة الكافية. وقد أدّى تراكم هذه الممارسات إلى تنامي نقمة الشارع البيروتي، الذي بات يتساءل: كيف تضخّمت موازنة العاصمة إلى آلاف المليارات فيما تتراجع البنى التحتية والخدمات، وأين تُنفَق هذه الأموال حقًّا؟
السلفات بالتراضي بدل المناقصات من أبرز مظاهر غياب الشفافية وسوء الإدارة المالية في بلدية بيروت خلال الأعوام الأخيرة استبدال الآليات الرسمية للإنفاق (المناقصات العمومية) بأسلوب غير شفّاف يُعرف بالسلفات المالية المُعطاة بالتراضي. فمنذ نحو خمس سنوات توقفت البلدية عن إجراء مناقصات علنية لمعظم مشاريعها، واعتمدت بدلًا منها نظام السلفات المالية لتسيير الأعمال. ويعني ذلك عمليًّا تمويل نفقات ومشاريع البلدية عبر دفعات مالية مسبقة تُصرف مباشرة إلى متعهدين أو دوائر معيّنة من دون المرور بالإجراءات القانونية للمناقصة والتلزيم. وقد لجأت البلدية إلى هذا الأسلوب بحجة تردّي الأوضاع المالية وتقلّبات سعر الصرف التي دفعت المتعهدين إلى العزوف عن المشاركة في المناقصات التقليدية. ففي عام 2021 استصدرت رأيًا استشاريًا من ديوان المحاسبة (رقم 38/2021) يجيز، في ظروف استثنائية، تأدية بعض النفقات المستعجلة بواسطة السلفات بعد عزوف العارضين عن التقدّم بسبب التقلبات الحادة في سعر الليرة.
غير أنّ بلدية بيروت سرعان ما وسّعت تفسير هذا الرأي إلى ما يتجاوز حدود الضرورة والاستثناء، فتحوّلت السلفة من أداة دفع استثنائية إلى الآلية الرئيسية للشراء في البلدية، لتطال طيفًا واسعًا من النفقات والأشغال العادية. على سبيل المثال، باتت تُنفَّذ عبر السلفات مشاريع البنى التحتية والصيانة، وتزفيت الطرق، وترقيع الحفر، وتنظيف ريغارات الصرف الصحي، وتأهيل الأرصفة وجدران الدعم، فضلًا عن أعمال التشجير وتشحيل الأشجار في حرج بيروت ومواصفات الطرق، وصيانة آليات البلدية، وتأمين المحروقات لفوج الإطفاء والحرس البلدي وغيرها. جميع هذه الأعمال، التي يفترض أنّها ضمن النشاط العادي، كان يمكن أن تخضع لمناقصات شفافة، لكنّ البلدية آثرت تمويلها عبر سلفات تُمنح مباشرة إلى متعهدين محدّدين من دون أي منافسة.
شيوع الاحتكار وغياب المنافسة خلافًا للقواعد المالية السليمة، كرّست سياسة السلفات بالتراضي الاحتكار والمحسوبية في بلدية بيروت. فبعد إقصاء المناقصات العلنية، غابت المنافسة بين الشركات والمتعهدين واقتصرت الأشغال على دائرة ضيّقة من المتعاقدين المحظيّين، الذين راكموا الأرباح من المال العام عبر تجديد السلفات بانتظام. نشأت بذلك شبكة زبائنية داخل البلدية توزَّع فيها السلفات على جهات محسوبة على المتنفّذين، بدل اعتماد معايير الكفاءة والسعر الأفضل. وقد أفرز هذا السياق بيئة مثالية للفساد والرشوة، إذ بات بعض الموظفين والوسطاء يتولّون دور "سماسرة" ينسّقون صرف السلفات لقاء عمولات غير مشروعة.
ملفات الهدر والفساد: ما كشفتْه الرقابة لم ينهَر معدل الثقة بمالية بلدية بيروت بين ليلة وضحاها؛ فالتقارير الرقابية والتحقيقات الصحافية تكشف سلسلة ملفات هدر وفساد راكمت الخسائر طوال سنوات. بحلول مطلع 2023 وجدت البلدية نفسها على حافّة الإفلاس، ليس بسبب الأزمة الاقتصادية العامة فحسب، بل نتيجة عملية نهب منظَّمة استمرت أعوامًا، ولا سيّما بين 2017 و2019، حين صُرفت أموال ضخمة بلا تبرير كافٍ في ظل الإدارة السابقة للمحافظة والمجلس البلدي. وقد دفع هذا الواقع بالمجلس البلدي، في أيّار 2019، إلى اتخاذ قرار غير مسبوق يقضي بإجراء تدقيق جنائي في النفقات، وهو إقرار ضمنيّ بحجم التجاوزات.
قضية جسر سليم سلام: صدر القرار النهائي لديوان المحاسبة في 7 أيار 2024، ليؤكّد حجم الهدر في تلزيم وصيانة جسر سليم سلام: 6.8 ملايين دولار أُنفِقت من أصل كلفة إجمالية قُدِّرت عام 2017 بنحو 8.8 ملايين دولار، فيما بيّنت الدراسة الفنية أنّ قيمة الأعمال الفعلية لا تتجاوز 2.96 مليار ليرة. فرض الديوان غرامات قصوى على المحافظ السّابق زياد شبيب، ورئيس المجلس البلدي السّابق جمال عيتاني ونائبه إيلي أندريا، وأعضاء المجلس الذين أقرّوا التلزيم من بينهم راغب حداد، بتهمة "إلحاق الضرر بالمال العام". كما وبحقّ المتعهد شركة أنطوان مخلوف للتجارة والمقاولات (الشخص المعنوي) الذي نُسب إليها هدر ضخم وتلزيم من الباطن، ومهندس الصفقات العمومية المهندس هاغوب ترزيان حُمِّل مسؤولية في تلزيم المتعهد من الباطن وغيرهم. أما الجدير بالذكر فإن عددًا من هؤلاء الأعضاء الذين صدرت بحقّهم الأحكام، مرشحون مرةً جديدة على الانتخابات البلديّة.
صفقة التشجير والتخضير: رصدت البلدية نحو 9.5 مليار ليرة لزرع الأشجار وتشجير الشوارع، أُسندت إلى شركة محسوبة على نافذين قبل انهيار العملة. تبيّن لاحقًا أنّ القيمة مبالغ فيها قياسًا بأسعار السوق، وأن التنفيذ هزيل؛ إذ أعيد تلزيم الأشغال لمقاول فرعي مقابل نحو 20 ألف دولار سنويًّا، ما يعني تقاضي الشركة الأصلية فرقًا يناهز 380 ألف دولار سنويًّا بلا وجه حق. أحيل الملف إلى القضاء بتهم الإثراء غير المشروع وهدر المال العام.
ملفّ إشارات السير التوجيهية: ركّبت البلدية لوحات مرورية من معادن ثمينة في عدد كبير من الشوارع، ليُكتشف لاحقًا استبدالها بلوحات رخيصة سرعان ما تفكّكت أو سُرقت. انتهت التحقيقات القضائية إلى الادعاء على عدد من كبار المقاولين إضافةً إلى المحافظ ورئيس المجلس البلدي السابقَين بجرائم اختلاس وهدر المال العام؛ غير أنّ القضية ما تزال عالقة أمام قاضي التحقيق وسط تساؤلات عن أسباب التأخّر في بتّها.
تلزيم صيانة وتزفيت الطرقات: أنفقت البلدية بين 2017 و2019 ما يقارب 125 مليار ليرة (نحو 83 مليون دولار آنذاك) على مشاريع تزفيت وصيانة في الأشرفية والطريق الجديدة والحمرا وصبرا وغيرها، نفّذها مجموعة من المتعهدين المتكرّرة أسماؤهم في الصفقات العامة. ورغم ضخامتها، لم تُحدث هذه المشاريع أثرًا ملموسًا؛ فالشوارع بقيت محفّرة وبناها التحتية متهاوية، ما أثار شبهات جدّية حول جدوى هذه النفقات وحقيقة كلفتها.
اتفاق النفايات مع برج حمود: وقّعت البلدية اتفاقًا مع بلدية برج حمود لمعالجة نفايات العاصمة بكلفة تقارب 6 ملايين دولار موزّعة على أربع دفعات، في وقت كان مطمر برج حمود مغلقًا ولا يستقبل نفايات فعليًّا. كشفت تحقيقات ديوان المحاسبة تلاعبًا بالمستندات الرسمية: وُجد محضران مختلفان للفترة الزمنيّة ذاتها، يتضمّن كلّ منهما أرقامًا متباينة للمدفوعات، ما يشير إلى احتمال تزوير لإخفاء التجاوزات من قبل سبعة موظفين وُجِّه إليهم الادعاء بتزوير محاضر تسلّم "شاحنات وهميّة".
تؤكّد هذه الملفات، وغيرها، وجود نمط متكرّر من الهدر والفساد في تسيير مالية بلدية بيروت: مشاريع تنموية بلا ثمرة، عقود مُبالغ في أسعارها، وتلاعب بالقيود لإخفاء المخالفات، يرافقها شبهات رشاوى وعمولات. وعلى الرغم من إحالة بعض القضايا إلى القضاء، فإن المحاسبة الفعلية ما تزال غائبة. عشية الانتخابات البلدية الحالية، يرى كثيرون أنّ صناديق الاقتراع يجب أن تتحوّل إلى استفتاء على هذا المسار، وفرصة لمساءلة المسؤولين عن تبديد أموال العاصمة. فالمال العام بلا حوكمة يتحوّل إلى ريع، والريع بلا محاسبة يصبح فسادًا منهجيًّا، يتجلّى يوميًّا في بنية تحتية متداعية وخدمات متردّية. تقف بيروت اليوم أمام خيار واضح: انتخاب مجلس يعيد الاعتبار للمناقصة والتدقيق والقطع الحسابي، أو إعادة إنتاج الحلقة نفسها تحت شعار "التوافق".