أيُ بابا لعصرنا؟- بقلم شربل عبدالله أنطون

  • شارك هذا الخبر
Monday, May 5, 2025

عندما تحدث خورخي بيرغوليو في الجمعية العامة المغلقة للكرادلة (اجتماعات ما قبل المجمع الانتخابي) عام 2013، عن أهمية خروج الكنيسة من ذاتها، والذهاب إلى "الضواحي الوجودية" والتفاعل مع الناس في تلك الأماكن التي يشعر فيها الأفراد بالغربة عن الله، أو يعانون من نقص المعنى في حياتهم، أو يشعرون بالتهميش والنسيان. كان الكاردينال الأرجنتيني يُحذر من أن "الكنيسة ذاتية المرجعية" تُصاب بالمرض والانغلاق الروحي. جادل بيرغوليو حينها أن الكنيسة المنغلقة على ذاتها تُبقي يسوع داخل جدرانها وتمنعه ​​من الخروج للتبشير. لكن الكاردينال الأرجنتيني لم يكن يعرف حينها أن خطابه القصير (أربع دقائق) سيحرك قلب وعقل الكرادلة، لانتخابه رئيساً لهم بعد أيام في المجمع الانتخابي. هذا الكاردينال ما هو إلا البابا فرنسيس الذي ودعته الكنيسة والعالم منذ أيام.

جمعية عالمية
الجمعية العامة للكرادلة هي منتدى أكثر انفتاحاً وتوجهاً نحو المناقشة من المجمع الانتخابي، الذي سيعقد في 7 مايو/أيار الجاري، لانتخاب بابا خلفاً للراحل فرنسيس.
من بين 135 كاردينالاً مؤهلين للتصويت حالياً هناك 53 من أوروبا، 16 من إيطاليا. ويبلغ عدد الناخبين من آسيا 23 كاردينالاً، ومن أميركا اللاتينية (بما فيها المكسيك) 21 ناخباً، ومن أفريقيا 18 ناخباً، ومن أميركا الشمالية 16 ناخباً، ومن أوقيانوسيا 4 ناخبين.
عيّن البابا فرنسيس 108 كردينالا من أصل الـ 135 الناخبين، أي 80 بالمائة منهم؛ 39 % من أوروبا مقابل 52% حين انتخب فرنسيس. 17 % من آسيا مقابل 9% حين انتخب فرنسيس. و15% من اميركا الشمالية مقابل 17% عام 2013. و13 % من افريقيا مقابل 10%. و13 % من اميركا الجنوبية مقابل 11%. و3 % مقابل 1% من أوقيانوسيا.
بكلمة واحدة، حقق البابا فرنسيس لامركزية واسعة في مجمع الكرادلة، بعد أن كانت محصورة لقرون بأوروبا. لدرجة انه حين تم انتخاب البولندي يوحنا بولس الثاني اعتبروه أنه آتٍ "من بلد بعيد". والمجمع الانتخابي الراهن هو الأكثر تنوعاً في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية؛ فحين انتخب فرنسيس عام 2013، كان هناك كرادلة من 48 بلداً. أما اليوم فهناك كرادلة من 72 بلداً في المجمع الانتخابي. عالمية الكنيسة الكاثوليكية لم تكن يوماً كما هي عليه الآن.

كنيسة في اتجاه فرنسيس؟
أولئك الكرادلة المجتمعين اليوم، سيحددون اتجاه الكنيسة الكاثوليكية في المرحلة المقبلة في عالم متغير. ويرسمون ملامح أو بروفايل البابا المقبل: تقدمي أم تقليدي محافظ، أوروبي أم آسيوي أم أفريقي...
لقد حوّل البابا فرنسيس اهتمام الكنيسة إلى كلّ العالم. وأصبح مجمع الكرادلة أكثر تنوعاً وتمثيلاً للعالم الواسع. وربما يجد بعض الكرادلة الآن صعوبة في اختيار إيطالي أو أوروبي لقيادة الكنيسة بعد فرنسيس.
طوال فترة بابويته، واجه البابا فرنسيس "القضايا الاجتماعية" التي هيمنت على النقاش العام في الغرب في العقود الأخيرة، ومن بينها الإجهاض، وتنظيم النسل، والطلاق، وزواج المثليين، والاعتداءات الجنسية من قِبل بعض الكهنة والأساقفة، وعزوبة الكهنة. إضافة إلى قضايا عالمية كتغير المناخ والتفاوت الاقتصادي والحروب.
غالبًا ما يُوصف البابا فرنسيس بالتقدمي لتأكيده على المساواة والتواضع. وقد حوّل تركيز الكنيسة من مواضيع "الحرب الثقافية" التقليدية، كالإجهاض وتنظيم النسل، إلى قضايا العدالة الاجتماعية الأوسع. وتميزت بأبويته بالتواصل مع المجتمعات المهمشة، بما في ذلك المهاجرين. كما شجع الحوار داخل الكنيسة بدلاً من إصدار المراسيم التنفيذية فقط. وقد أكسبه أسلوبه غير الرسمي وتركيزه على الرعاية الرعوية لقب "بابا الشعب".
يقول الكاردينال الإيطالي كاميلو رويني إننا "بحاجة إلى إعادة الكنيسة إلى الكاثوليك لأنه في بعض الأحيان بدا أن فرنسيس يفضل أولئك البعيدين عن الكنيسة على حساب المؤمنين المتدينين".

أي بابا بعد فرنسيس؟
بعد فرنسيس لا مكان لـ "بابا متحجر بلا قلب ولا لبابا منغلِق، كما أنه بعد يوحنا بولس الثاني لم يعد هناك مكان لبابا بلا لون وبلا صفات قيادية، فالبابا قائد وليس موظفاً"، كما قال لي أحد الكرادلة أمس.
في الكنيسة الكاثوليكية اختلاف آراء ورؤى وتوجهات لا تناقضات سياسية وحزبية بالشكل المعروف في الحياة العامة في أميركا وأوروبا وغيرها؛ فالكاردينال أو الأسقف "المحافظ ليس نقيضاً لأخيه المُجدِد، فكلاهما يكمل الآخر في كنيسة تحتاجهما معاً. وكلاهما ملتزم بتعليم الكنيسة"، كما يقول مُحدثي الكاردينال. والكرادلة أمراء في الكنيسة وليسوا أتباعاً مصفقين للبابا، أو من "حزبه"، بالمعنى المتداول للكلمة. وفي هذا التنوع يكمن غنى الجمعية العامة، وبالتالي المجمع الانتخابي.
باختصار، بينما ركّز بنديكتوس على الحفاظ على التقاليد والدقة اللاهوتية، مال فرنسيس نحو الإصلاح والمساواة وعدم الاقصاء، مما جعله أكثر انسجاماً مع نهج يوحنا بولس الثاني العالمي والرعوي، فكلاهما ركز على التواصل مع المؤمنين ومعالجة القضايا العالمية، وإن كان ذلك في سياقات وأساليب مختلفة. وقد تميّز كل بابا بمهارات فريدة في قيادته، تعكس الاحتياجات المتطورة للكنيسة والعالم.

قضايا العالم في الجمعية العامة
انتقدت تعاليم الكنيسة الكاثوليكية الاجتماعية الأيديولوجيات الاجتماعية والسياسية الحديثة، بما في ذلك الليبرالية، والأشكال الإلحادية من الاشتراكية والشيوعية، والفوضوية، والإلحاد، والفاشية، والرأسمالية، والنازية. تهدف هذه الانتقادات إلى تحقيق توازن بين احترام الحرية الإنسانية والاهتمام بالمجتمع، وخاصةً الفئات الأضعف والأكثر فقراً.
أدرج البابا فرنسيس الشيوعية، إلى جانب الرأسمالية الجامحة والنازية والليبرالية، في قائمة الأيديولوجيات الشمولية. كما كان فرنسيس يُشير إلى العلمانية باعتبارها العدو الرئيسي للإيمان. وأكد على ذلك قائلاً: "هناك إنكار لله بسبب العلمانية والأنانية البشرية".
كما عبّر البابا فرنسيس عن قلقه من بعض جوانب الرأسمالية، لا سيما تلك التي تؤدي إلى الإقصاء وعدم المساواة. وانتقد "عبادة المال"، مؤكداً أن هذه قد تؤدي إلى نزع الإنسانية والظلم الاجتماعي.
يقول الكاردينال الأفريقي المحافظ روبرت سارة بشأن ما يُعرف بثقافة الووك، إن "جماعات العولمة تريد تحرير الانسانية من الله، والرجل من المرأة، والأولاد من الأهل".
تواجه الكنيسة حروباً وأزمات عالمية وصدامات حضارية. وهي لا تحتاج إلى رجل إدارة، ولا إلى أكاديمي، بل تحتاج إلى رجل يعرف معنى الصليب والأمل في أماكن يُحاصر فيها الإيمان، رجلٌ يعرف العالم بعمق، ويستطيع التحدث بوضوحٍ مماثل في روما وبكين، والقدس، والقاهرة، وموسكو. كما تحتاج الكنيسة لبابا يعرف الحقائق الرعوية والجيوسياسية التي يفرضها عصرنا.