لا للمظلّة الإسرائيليّة ولو سقطت السّماوات -بقلم قاسم يوسف

  • شارك هذا الخبر
Monday, May 5, 2025

يُراد لنا أن نُصدّق ما كذّبته التجارب. فالمقاومة ليست رجزاً من عمل الشيطان ولو سرقها شذّاذ الآفاق. وإسرائيل ليست حمامة سلام أو مظلّة نستظلّ بها ولو أمطرت. ثمّة هنا من يسعى إلى تدجين الناس وتضليلها. وثمّة هناك من يهرول مُسرعاً نحو حتفه. وبين هذا وذاك يحضر العقل العاقل … والرجال الرجال.

لن نُصدّق أنّ جمال عبدالناصر كاد يُقنع كبير القذاذفة بضرورة احتساء القهوة مع غولدا مائير. لن نُصدّق أنّ كمال كنج أبو صالح ارتدّ على الحاكم بأمر الله، وصار يعزف مع بني معروف على وتر دولة الدروز التي تمتدّ من مجدل شمس إلى بعقلين. لن نُصدّق أنّ كمال جنبلاط قضى نحبه عند قارعة الطريق لأسباب شخصيّة.

لن نُصدّق أنّ الوحدة دجَلٌ والمقاومة عبَثٌ والتقسيم فرَجٌ والانفصال حلٌّ والتعايش مستحيل. لن نُصدّق، ولو سقطت السماوات، أنّ اليمين الفاشي الدمويّ في إسرائيل أحنّ على أحفاد سلطان الأطرش من جيرانهم في درعا، وأنّ موفّق طريف أقرب إليهم من محمد أبو شقرا أو وحيد البلعوس.

لن نُصدّق أنّ تاريخنا المستدام كان وهماً فوق وهم. وأنّ تجاربنا وعذاباتنا ونكساتنا وأفراحنا وأتراحنا كانت مجرد زوبعة في فنجان. لن نُصدّق ولن نُسلّم ولن نستكين. قاتلنا حين وجب القتال ولو بحدّ أظفارنا. واجهنا مخارز الدنيا بعيوننا المفتوحة. بيروتنا هذه ساوت الأرض. مرّة تلو مرّة تلو مرّة. لأجل فلسطين. في دمشق ارتفع صوت يقول هنا القاهرة. وفي الخرطرم اختتم اليوزباشي الأسمر ثورته النبيلة بلاءات العرب الثلاث. ثمّ قبل هذا وبعده. تزلزلت الأرض الموعودة من الماء إلى الماء. مراراً وتكراراً. لم يكن في جعبة أهلها يومذاك لا صاروخ ولا مسيّرة ولا حتّى بندقية. بل انتفاضة من حجارة وإرادة وكرامات.

لن نُصدّق أنّ تاريخنا المستدام كان وهماً فوق وهم. وأنّ تجاربنا وعذاباتنا ونكساتنا وأفراحنا وأتراحنا كانت مجرد زوبعة في فنجان
اجترار التّاريخ

ليس في ذاكراتنا ثقوب وإن ثقبوها. إن نسينا فلا ننسى ذاك الختيار الذي لوّح لهم بأغصان الزيتون فحاصروه وقتلوه. إن نسينا فلا ننسى كيف حطّ محمّد أنور السادات رحاله في قلب القدس. قال جئت إليكم على قدمين ثابتتين. لكي نبني حياة جديدة. لكي نُقيم السلام. صفّقوا له بحرارة. وحين سألوا مناحيم بيغن ماذا قدّمتم لهذا العربي المجنون الذي قفز نحو السلم كمن يقفز إلى قعر الجحيم، قال: استقبالاً حارّاً في مطار بن غوريون.

لا شيء تُقدّمه إسرائيل لكم. حين رفض بشير الجميّل في اجتماع نهاريا الشهير إملاءات الإذعان والتطبيع، همس لرفيقه جوزف أبو خليل في طريق عودته: لن نصل إلى بيروت. والحقّ أنّه وصل. لكنّهم قدّموه على شاكلة وجبة ساخنة يلتهمها حافظ الأسد. كذا كانت الحال مع أنطوان لحد. وقد عبّر ذات يوم عن عميق الغصّة والألم من إسرائيل التي تركته، ثمّ صبّ جام غضبه على إيهود باراك.

إسرائيل:
ثمّة من يُريد اجترار التاريخ، غير آبه بكلّ ما أُثخن فيه من دروس وعبر. وثمّة من يريد كيّ الذاكرة وسحقها وثقبها. بل وتحويل كلّ ما فيها إلى خردة أو ركام. ما الغاية مثلاً من استحضار كلام عبدالناصر بعد أكثر من نصف قرن على رحيله؟ ما الغاية من توزيعه وتعميمه وتضخيمه والإضاءة عليه في هذا التوقيت بالذات؟ أهو تشريع للتطبيع المجّانيّ أم تبرئة للهمجيّة الإسرائيلية أم محاكمة علنيّة لماضٍ تشاركنا جميعاً في صناعته؟ لقد مضى الرجل إلى نعشه وفي يده لاءات وحروب وبندقيّة، ثمّ ترك كرسيّه لأغصان الزيتون وحمائم السلام، فما الذي تغيّر؟

شرٌّ مطلق:
لن نُصدّق إلّا ما خبرناه وعرفناه عن عبدالناصر وعن ضبّاطه الأحرار. قبل النكسة وبعدها. قبل التأميم وبعده. قبل مبادرة وزير الخارجيّة الأميركي الأسبق وليم روجرز وبعدها. لن نُصدّق شيئاً بخلاف ذلك. ولو صدّعوا رؤوسنا بكلّ تسجيلات الأرض.

إسرائيل هذه ولو انتصرت وانفلشت وتوسّعت، لن تصير خيمة فوق رأس أحد
لن نُصدّق أيضاً إلّا ما سمعناه من مشايخ السويداء وهم يتلون بياناً كتبوه بالعنفوان والكرامة وماء العيون. لن نصدّق إلّا أهالي الجولان الذين رفضوا الجنسيّة الإسرائيلية كابراً عن كابر، ورفضوا زيارة بنيامين نتنياهو للتعزية بأطفال مجدل شمس. لن نُصدّق إلّا الشجاع المكلّل بذاته وليد جنبلاط، ومعه شيخ العقل والبقيّة الباقية من أحفاد “المعلّم” الذي فضّل الموت على السجن العربي الكبير.

إسرائيل هذه، ولو انتصرت وانفلشت وتوسّعت، لن تصير خيمة فوق رأس أحد. من يُعطيها روحه لن تعطيه إلّا الفتات. ومن يُصدّق أنّها قد تحمي درزيّاً أو علويّاً أو كرديّاً أو أقلّويّاً فهو واهمٌ ومحدود ومشتبِه. قد تستخدمهم. قد تستثمر في ذعرهم. ثمّ تتركهم كما تركت غيرهم. هذه ثوابت تاريخية مؤكّدة لا تقبل النقض ولا تقبل التشكيك.

صحيحٌ أنّنا تعبنا من الحروب ومن العبث ومن المغامرات. صحيحٌ أنّنا كفرنا بكلّ الموبقات والإرهاصات والتجاوزات التي مورست تحت شعار المقاومة واسم فلسطين. لكنّ شرّ هذا لن يكون بديلاً عن شرّ ذاك. ولا خيار أمامنا إلّا بإعادة الأمور إلى نصابها. فلا تقسيم ولا انفصال. لا ارتهان ولا إذعان. لا غلوّ ولا تطرّف. بل مواطنة كاملة ودول عاقلة وقيادة رشيدة. أمّا إسرائيل. فهي قطعاً شرٌّ مطلق.