تخفي المفاوضات الإيرانية – الأميركية تنافساً حادّاً وشرساً وخفيّاً بين ثلاثة عوالم وأولياء وقوميّات (أميركية وإيرانية وإسرائيلية). يتناقض جوهرها إلى حدّ التنافر. وتتناغم فيما بينها بنسقيّة لقاء الأضداد، وفي سبيل الهروب من عبء كارثيّ مشترك. يلعبون على حافة الهاوية. فهل تتابع أميركا مسلسل تأهيلها لإيران؟ وكيف؟
قوميّات وأولياء يريد المرشد الإيراني علي خامنئي جعل إيران الفارسية عظيمة من جديد. إنّه وليّ الفقيه والقومية. يُعتبر رجلاً عقائديّاً بامتياز، ويدير نخبة من الأقلّية الأوتوقراطية. يدخل في أزمات وتسويات مع العالم كلّه للحفاظ عليها. إنّه حاليّاً في إطار العمل على مهادنة وربط نزاع للحفاظ على رأس نظامه.
تشعر إيران اليوم بالضيق. تعتمد على المفاوضات الأميركية لتستعيد جزءاً من القوّة. تحاول إيران إنقاذ القومية الملالية، وترميم ما بقي من مشروعها. يحاول المرشد في سبيل ذلك استثمار أوراقه الخارجية لإنهاء الحروب أو القيام بها عبر وكلائه في سبيل حفظ طهرانه. يمتاز خامنئي بالولاية الفردانيّة. يطوّع النظام ومؤسّساته في سبيل الوليّ الفقيه وديمومة النظام، حتّى من دون الأذرع التي أُوجدت للدفاع عنه.
تتأرجح إيران بين فرضيّات متعدّدة أفضلها سيّء، وأسوَؤها كارثيّ. لذا يهرب المرشد إلى الأمام في الاعتماد على عامل الوقت. يحاول أن يكون براغماتيّاً قدر الإمكان.
في المقابل، يستشرس دونالد ترامب لجعل أميركا عظيمة. نصّب نفسه وليّاً على العالم. يتمرّد على الدولة العميقة الأميركية والنظام الدولي لحماية القومية الأميركية الجديدة. يستثمر في العنف الخارجي والفوضى الداخلية. إنّه شخصيّة مبنيّة على العنف السياسي. يعدّ مصدر الخطر والسلام من خلال تعاطيه مع الصدام الثقافي في طبيعته وهويّته. يمتاز ترامب باللامتوقّعات الرئاسية فيما لديه إدارة تعاونه، وصلاحيّات كونغرس قويّة. تحرّك أميركا مجموعة قوى من أصحاب المصلحة ذات الطابع التجاري.
تعدّ نافذة الفرص الإيرانية ضمن هذه الوقائع أقلّ بكثير من الاحتمالات المفتوحة أمام كلّ من إسرائيل والإدارة الأميركية يتغوّل بنيامين نتنياهو بموازاتهما ويستفيد من القوميّتين الفارسية والأميركية. كرّس نفسه في مقام ملك إسرائيل الجديد، وخطّط لإعلاء القومية العبريّة اليمينية. وضع أمامه حلم إسرائيل الكبرى، وصفريّة فكرة الدولة الفلسطينية. يعمل على إفشال كلّ المبادرات، ويهندس لتسعير النار في المنطقة، وإشعال لهيبها العسكري مجدّداً. يريد الهرب إلى الأمام من واقعه الداخلي والمحاكمات المتربّصة به. يشارك نتنياهو على حدّ زعمه في تشكيل الشرق الأوسط، بينما هو عاجز عن إعادة نفسه على المسرح السياسي الإسرائيلي، وتثبيت نفسه بطلاً وملكاً لإسرائيل.
تعدّديّة أهداف الصّفقة تختلف الأهداف المنشودة لكلّ من إسرائيل وأميركا وإيران. يريد الرئيس الأميركي تغيير نظام الملالي، بما يتناسب مع أميركا العظمى، لكن لا يهوى إنهاءه حاليّاً. ينظر في إمكان تطويعه، وتجريده من كلّ الحراكيّات والطموحات التوسّعية.
دخل في مفاوضات مع إيران تحت ضغط الخيار بين الاتّفاق أو الحرب. تراجع خامنئي أيضاً عمّا وصفه نزقيّة التفاوض مع أميركا، وسلوكاً غير مشرّف. لكنّه يعرف ما العمل في حال النجاح والفشل، وتحديداً مع الكوادر الإيرانية الرافضة لهذه الخطوات.
أمّا ترامب فهو على النقيض. لا يعرف في حال النجاح ماذا يفعل مع نتنياهو الرافض للتفاوض، ولا في حال الفشل وإمكان الذهاب إلى ضربة عسكرية لإيران.
تنطوي المفاوضات على مجموعة أهداف مختلفة للقوميّات الثلاث. بين نجاح المفاوضات والخوف من الوقوع في فخّ صفقة معيبة، تتجلّى بوضوح عدّة مواضيع أساسية، من أبرزها صفريّة الكعكة النووية، وإنهاء صناعة الصواريخ الإيرانية البعيدة المدى، وكسر مرونة التدخّلات الإيرانية في مناطق الجوار عبر الإحجام عن دعم الأذرع المتناثرة في الدول العربية، والتوقّف عن تهديد إسرائيل.
تنطوي المفاوضات على مجموعة أهداف مختلفة للقوميّات الثلاث تعمل الإدارة الأميركية على تجفيف إيران من النووي. تتأرجح بين نقطتين للحفاظ على توازن في المنطقة يساعد في الاستقرار، وذلك بهدف الالتفات إلى الصين. يحاول ترامب تجنّب الوقوع في فخّ وبراثن الاتّفاق السيّئ، الذي قد يكون أسوأ من حالة عدم الاتّفاق. يتمحور حراكه من خلال ضغوطاته الحالية، على تصحيح أخطاء الإدارات الديمقراطية السابقة منذ باراك أوباما إلى جو بايدن، مع تحسين سلوك إدارته على المستوى الشخصي. يريد ترامب اتّفاقاً نوويّاً غير نهائي. يضع في حسبانه أولويّة معالجة الأطر العسكرية في قوّة البرنامج، شرط مراقبة دوليّة أعمق.
نافذة الفرص محدودة تعدّ نافذة الفرص الإيرانية ضمن هذه الوقائع أقلّ بكثير من الاحتمالات المفتوحة أمام كلّ من إسرائيل والإدارة الأميركية. تستغلّ إيران الوقت لكي تحوّل الضعف إلى حصن والاستفادة منه. تجيد استخدام الوقت في خطّة تكتيكية وبراغماتية، ويقابله نبض ترامب الاندفاعيّ السريع وعزمه على الوصول إلى اتّفاق بشكل متسرّع وخلق نجاح دبلوماسي يريد منه التفوّق على نفسه وعلى أسلافه.
تبرع إيران في اللعب في هذه الأجواء لكي تزيد من قوّة ترسانتها وتفلّتها في التخصيب النووي. تستخدمها في تقوية ملفّها وموقعها، باستعمال ما بقي من أذرعها من لبنان إلى اليمن، إضافة إلى الهدايا التي تغري بها أميركا. وهذا ما يرصده الكيان الإسرائيلي.
تتربّص إسرائيل بكلّ هذه المبادرات، وتعمل على إفشالها. يرى فريق داخليّ أنّ من الأفضل ترك الملفّ الحالي مع أميركا، وتخفيف التوتّرات مع الرئيس الأميركي. ويحبّذ آخرون اكتفاء إسرائيل بلعب دور المهدَّد للضغط على موقف واشنطن التفاوضيّ. وينادي فريق ثالث بتنفيذ ضربة عسكرية على الفور لأنّها فرصة تاريخية. يحذّرون من متاهة إضاعة الفرص فيما الصور ما زالت ضبابية.
كيف سيرضي ترامب أميركا وإسرائيل ويتفادى الضربة العسكرية في آن؟ وكيف سيعمل على تحسين صورة إيران: عبر الضربة أم الاتّفاق؟