هل سيستطيع لبنان «تحييد» نفسه حقاً؟- بقلم رامي الريس

  • شارك هذا الخبر
Thursday, February 13, 2025

التطورات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط في الأشهر الأخيرة غير مسبوقة، لا من حيث حجمها، ولا نتائجها، ولا موازين القوى الجديدة التي خلفتها، من تراجع «محور الممانعة»، وسقوط النظام السوري بقيادة آل الأسد بعد عقود من حكم سوريا، واغتيال أمين عام «حزب الله» اللبناني حسن نصر الله، إلى ضرب غزة، وتدميرها تماماً، والانقضاض على الضفّة الغربيّة، والقدس.

وإذ تعيد الحروب الإسرائيليّة رسم الخريطة الإقليميّة، وتسعى تل أبيب لتنصيب نفسها «شرطي المنطقة» الذي «يؤدب» هذا، ويقصف ذاك من دون أي اعتبار لسيادة الدول، أو الحدود، أو المدنيين؛ يعيش لبنان منعطفاً صعباً لم تتضح معالمه بعد، لا سيّما على ضوء الارتسام التدريجي لموازين القوى المحليّة الجديدة بعد التطورات الأخيرة التي يتوقع البعض أن تترجم نفسها في المعادلات الداخليّة، وفي المؤسسات الدستوريّة.

التباشير الأولى لهذه التحولات عكست نفسها في الانتخابات الرئاسيّة اللبنانيّة، إذ إنها أسفرت عن انتخاب شخصيّة تحظى بالاحترام السياسي والشعبي، ولا تنتمي إلى أي فريق بعينه، ومواقفها واضحة في مسألة السيادة، وهو ما عبّر عنه بوضوح الرئيس جوزيف عون في خطاب القَسَم عن حصريّة امتلاك الدولة للسلاح، وهذا أمر متعارف عليه في كل الدول، ولكن في لبنان ثمّة تعقيدات تحُول دون تطبيقه بالكامل.

وعكست التحولات نفسها في خطوة إضافيّة تمثّلت في تكليف رئيس محكمة العدل الدوليّة الدكتور نواف سلام، وهو رجل مشهود له بالكفاءة، والنزاهة، والمعرفة، ونجح في تشكيل حكومة من ذوي الاختصاص، ونظافة الكف، بحيث يُعوّل على الحكومة الجديدة النهوض بالبلاد التي عانت انهياراً اقتصادياً ومالياً، وتضررت جراء انفجار مرفأ بيروت، وجائحة «كورونا»، فضلاً عن الحرب الإسرائيليّة الأخيرة وما خلفته من دمار في جنوب البلاد، والضاحية الجنوبيّة للعاصمة، ومحافظة البقاع، ومناطق أخرى، وأدّت إلى سقوط مئات المدنيين الأبرياء.

التحدي الأبرز يتمثّل في دفع الاحتلال الإسرائيلي للانسحاب من الأراضي التي لا يزال يسيطر عليها في الجنوب اللبناني قبل 18 من فبراير (شباط) الحالي، وهي المهلة الممددة لوقف إطلاق النار بعد أن انقضت في 27 يناير (كانون الثاني) الماضي من دون الالتزام بالمهلة الأساسيّة.

وتطرح هذه المماطلة الإسرائيليّة الكثير من علامات الاستفهام حيال السلوكيّات السياسيّة والعسكريّة التي سوف تعتمدها في المرحلة المقبلة مع لبنان، ومدى استعدادها للالتزام بعناصر الاتفاق، وفي طليعتها احترام السيادة اللبنانيّة، فإسرائيل تملك سجلاً حافلاً من الانتهاكات على مدى عقود، ولم تتوانَ يوماً عن ممارسة تلك الانتهاكات براً، وبحراً، وجواً من دون أي رادع، أو حسيب.

فترة الهدوء النسبي التي شهدتها الحدود اللبنانيّة مع فلسطين المحتلة منذ ما بعد انتهاء حرب يوليو (تموز) 2006 حتى فتح «جبهة الإسناد» في الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 (وهي لم تخلُ بدورها من انتهاكات محدودة)، لا يبدو أن تكرارها سوف يكون متاحاً بعد تغيير قواعد اللعبة بشكل جذري، وعلى ضوء التفوّق العسكري والتكنولوجي الإسرائيلي، ومن دون إغفال عامل آخر بغاية الأهميّة متمثّل في الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل، والذي بدأ يأخذ منعطفات جديدة مع عودة الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، وبدء إفصاحه عن خططه لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، والاستيلاء على المنطقة.

على ضوء كل هذه المعطيات، لا يبدو أن الرغبة اللبنانيّة المتعاظمة بتحييد لبنان عن صراعات المنطقة سوف تكون متاحة أو يسيرة؛ لأن الأمر مرتبط بالعمق بالسياسة الإسرائيليّة التي تزداد شراسة في المنطقة برمتها: مماطلة مع لبنان، وتوسع نحو مساحات واسعة في سوريا واحتلالها، وخلق أمر واقع جديد هناك، والترويج لخطط ترمب بخصوص غزة، وهو ما بدأ يعمل عليه بشكل حثيث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والهجوم على الضفة الغربيّة، إذ لم يعد مستبعداً توفير تغطية أميركيّة واعتراف من واشنطن بالسيادة الإسرائيليّة على الضفة الغربيّة، وهذا يعني عمليّاً انتهاء حل الدولتين (وهو يتلاشى أصلاً بفعل التوسع الاستيطاني)، وإسقاط حق العودة.

أما الكلام عن إقامة دولة فلسطينيّة في المملكة العربيّة السعوديّة، فهو مثير للاستهجان فعلاً؛ فالمملكة دولة مستقلة ليس من مسؤوليتها اقتطاع أجزاء من أراضيها لإقامة دولة أخرى، والفلسطينيون أساساً ليسوا في وارد التخلي عن أرضهم والذهاب إلى أي مكان آخر!