أشار الباحث البارز في مركز كارنيغي للشؤون الروسية والأوراسية ألكسندر بونوف إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وضع أهدافاً عدة وراء إرسال قوات إلى سوريا، في عام 2015.
كتب بونوف في مجلة "فورين أفيرز" أن بوتين أراد مساعدة روسيا على الإفلات من العزلة الدولية التي عانت منها بعد ضمها لشبه جزيرة القرم سنة 2014، وسعى لإعادة روسيا إلى موقع النفوذ في الشرق الأوسط، بعدما تضاءل وجودها عقب انهيار الاتحاد السوفيتي. كذلك، أراد ترسيخ روسيا باعتبارها قوة عالمية قادرة على دعم حلفائها ووقف الجهود الرامية إلى الإطاحة بالحكومات الصديقة. وسمح بالتدخل في سوريا لروسيا بتولي دور حامي المسيحيين في الشرق الأوسط، وهو الدور الذي تخلت عنه القوى الغربية المنحلة في نظر بوتين، وهي مهمة تتناسب تماماً مع رغبة بوتين في تقديم روسيا بصفتها المعقل الأخير للقيم المسيحية في أوروبا. في أعقاب الانهيار السريع لنظام الأسد، لم يعُد لدى بوتين الكثير ليظهره في ما يتعلق بهذه الأجندة الثلاثية.
الأمور مختلفة الآن تواجه روسيا خسارة قواعدها العسكرية في الشرق الأوسط ولم تظهر أي اهتمام يذكر بالمسيحيين السوريين الذين ادعت حمايتهم بعد أن أطاحت منظمة هيئة تحرير الشام بحكومة الأسد. كما تزايدت عزلة روسيا عن المجتمع الدولي منذ غزو أوكرانيا سنة 2022.
أوضح بونوف أن جوهر تدخل روسيا كان رسالة إلى الدول الأصغر غير المتحالفة بشكل وثيق مع القوى الغربية: "تحالفوا معنا، وسنحميكم من تغييرات الأنظمة المدعومة من الغرب". لمدة عقد من الزمن تقريباً، بدت هذه الرسالة ذات صدقية. لكن الآن تبدو الأمور مختلفة. لقد أدى تركيز بوتين الأحادي البعد على تحقيق النصر الكامل على أوكرانيا إلى إحالة أهداف السياسة الخارجية الأخرى لروسيا إلى مرتبة ثانوية وكلفها أحد أعظم نجاحاتها في السياسة الخارجية.
روسيا تخرج من عزلتها منذ البداية، كان تورط روسيا في سوريا مرتبطاً بأوكرانيا. في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، كانت موسكو تنظر إلى الثورات العربية باعتبارها امتداداً لاحتجاجات ميدان في كييف و"الثورات الملونة" التي هزت بلدان ما بعد الاتحاد السوفيتي قبل عقد من الزمن، وكلها كانت بمثابة بروفة محتملة لمحاولة للإطاحة بنظامه في نهاية المطاف. ظاهرياً، صاغ بوتين تدخل روسيا في سوريا باعتباره عملية لمكافحة الإرهاب. وبالرغم من رفض الغرب لمقترح روسيا بالشراكة ضد داعش في سوريا، هو قبل حقيقة تورط روسيا في الحرب ضد عدو مشترك، أو على الأقل متداخل. وأنشأت الولايات المتحدة وتركيا والعديد من دول الخليج قنوات اتصال عسكرية مع روسيا. في الوقت نفسه، ومن أجل دعم نظام الأسد، عمقت روسيا علاقتها مع إيران، فأنشأت لجنة عسكرية مشتركة وسلمت صواريخ إس-300 إلى طهران بالرغم من اعتراضات الولايات المتحدة، وعملت على تجاوز العقوبات الدولية. ولم يتردد بوتين أيضاً بالدخول في جدالات مع تركيا بشأن دعمها لقوات المتمردين السوريين، بل ذهب إلى حد فرض عقوبات تجارية على أنقرة. مع ذلك، لم يتصاعد تدخلها العسكري إلى صراع مع الدول السنية الإقليمية، كما توقع منتقدو بوتين.
من فك العزلة إلى عارض للأمن وجدت بلدان في أفريقيا وآسيا الوسطى، وبدرجة أقل أمريكا اللاتينية، أن قدرة موسكو على الدفاع عن نظام حليف من الاضطرابات الداخلية والسقوط هو أمر مطمئن. وكانت روسيا تواجه في السابق صعوبة في تسويق نفسها كمستثمر مقنع أو مصدّر للتكنولوجيا، خارج بناء محطات الطاقة النووية وتوريد الأسلحة. لكن دفاعها الناجح عن الأسد سمح للكرملين بتسويق نفسه كمُصدّر للأمن، سواء بشكل رسمي من خلال القوات المسلحة الروسية، أو بشكل غير رسمي، من خلال المرتزقة مثل شركة فاغنر شبه العسكرية.
وكانت المحاولة فعالة، استفادت الحكومات الأفريقية، من ضمنها الأنظمة في بوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد وليبيا ومدغشقر ومالي وموزمبيق وجنوب السودان، والأنظمة العلمانية ما بعد السوفيتية في آسيا الوسطى مثل كازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان، من عرض القوات والمرتزقة الروس في نضالاتها ضد العصابات المسلحة والجماعات الانفصالية، وكذلك لتدريب القوات المسلحة المحلية وخدمات الحماية.
استعداد للتضحية إن تخلي روسيا عن نظام الأسد لحشد المزيد من الموارد للقتال ضد أوكرانيا يوضح جيداً أن بوتين مستعد للتضحية بكل شيء من أجل النصر الكامل في الحرب. وبالرغم من أن بوتين يحاول تصوير نفسه على أنه رجل واقعي، فقد أصبح منشغلاً بأوكرانيا إلى حد استبعاد كل الضرورات الأخرى للسياسة الخارجية تقريباً. إن قدرة روسيا على توفير القوة العسكرية لحلفائها تعني أن خدماتها الأمنية كانت مطلوبة في كل من الشرق الأوسط وأفريقيا، لكن من المرجح أن يؤثر سقوط الأسد سلباً على ذلك الطلب. كما فشلت روسيا بتعزيز التنمية الاقتصادية في سوريا، إذ تجاوزت مستويات المعيشة في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة الإسلامية المدعومة من تركيا تلك الموجودة في المناطق التي تحكمها دمشق المدعومة من روسيا وإيران. وفي إدلب التي يسيطر عليها المتمردون، كانت هناك كهرباء ووقود ومياه ونقص أقل بكثير في الغذاء. ولم يتجاوز إجمالي التجارة الروسية مع سوريا 700 مليون دولار سنوياً، وهو أقل من تجارة تركيا مع الجيوب الصغيرة نسبياً من الأراضي التي يسيطر عليها المتمردون.
تجاهل الأسئلة الصعبة ستتخطى روسيا في نهاية المطاف سقوط الأسد والخسارة المحتملة لقواعدها العسكرية في البحر الأبيض المتوسط. لطالما نظر الروس إلى الحملة السورية بحذر ولامبالاة، لم تكن فكرة إرسال جنود إلى دولة إسلامية بعيدة تحظى بشعبية قط، واستحضرت ذكريات الحرب السوفيتية في أفغانستان. كان الروس راضين عن حرب صغيرة جوية في الأساس وعالية التقنية تُدار بقوات محدودة على الأرض. وساعدت التغطية الإعلامية للتدخل السوري في تشكيل التوقعات بشأن "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا باعتبارها انتصاراً سريعاً في مكان بعيد، ومصدراً سريعاً للفخر يتطلب القليل من التضحيات المجتمعية أو مشاركة جنود غير محترفين. تنتقد روسيا وإيران والعديد من الدول الأخرى التدخلات العسكرية الأمريكية باعتبارها متعجرفة وجاهلة للسياق المحلي وغير قادرة على تشكيل أنظمة مستقرة أو هياكل أمنية فعالة. الآن بينما تتجه روسيا الى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان طلباً للمساعدة في إجلاء عسكرييها وموظفيها المدنيين من سوريا، تجد نفسها في الدور نفسه الذي صورت فيه الولايات المتحدة ذات يوم، دولة بعيدة من شؤون المنطقة ودينامياتها، حيث يقوم لاعبون سياسيون محليون غير مهتمين بوجود الغرباء بدفعها خارجاً. إن تركيز روسيا على الحرب في أوكرانيا سيساعد بوتين والروس على نطاق أوسع في تجاهل الأسئلة غير المريحة حول سوريا، مثل مصير الأموال والموارد التي استثمرتها روسيا في البلاد، أو لماذا أُخِذت على حين غرة أجهزة الأمن الروسية مراراً وتكراراً، مع استعداد أوكرانيا للمقاومة، مع تمرد زعيم فاغنر يفغيني بريغوجين في يونيو (حزيران) 2023، مع التوغل الأوكراني هذا الخريف في منطقة كورسك، والآن مع السقوط السريع لنظام الأسد. الآن، تروج روسيا لرواية مفادها أنها أنقذت حياة الأسد وحريته، وبالتالي أوفت بضمانها بتجنيبه مصير معمر القذافي في ليبيا. لكن من الواضح أن حلفاء موسكو يتوقعون أكثر من ذلك بكثير من مصدّر لاستقرار النظام وأمنه.
ليست نهاية القصة قد يفاجأ الحكام الذين يأملون مساعدة روسيا بشكل غير سار بالسرعة التي تسعى بها إلى إقامة اتصالات مع قادة سوريا الجدد. حتى قبل رحيل الأسد، توقف التلفزيون الروسي عن وصف هيئة تحرير الشام بأنها منظمة إرهابية. والآن، تقيم موسكو اتصالاً مباشراً مع الحكومة السورية الجديدة، في محاولة لكسب ودها من خلال التأكيد على أنها، وبالرغم من المحاولات السابقة لدعم زعيم علماني ضد الأصوليين الدينيين، ترى نفسها معقلاً عالمياً للفكر الديني المحافظ. ولفت الكاتب إلى أنه لا ينبغي الخلط بين قرار بوتين بإعطاء الأولوية لأوكرانيا والتخلي الكامل عن الطموحات الروسية خارج جوارها المباشر. في مخطط بوتين، أصبحت أوكرانيا نقطة تحول في صراع عالمي بين النخبة الغربية ونظام جديد بقيادة روسيا.. بمجرد سقوط أوكرانيا، تأمل روسيا في الاستيلاء على جورجيا وأي أرض أخرى ترغب بها، والتسويق لنفسها مرة أخرى بصفتها راعياً قوياً للدول في جميع أنحاء العالم. وختم بونوف "لكن في هذه الأثناء، ستظل وعود موسكو جوفاء".