الرّياض في دمشق بعد الفراغ الإيرانيّ وقبل التفرّد التركيّ؟- بقلم وليد شُقَير
شارك هذا الخبر
Tuesday, December 24, 2024
سيبقى الحدث السوري نقطة الجذب الرئيسة، لبنانياً وإقليمياً ودوليّاً، مهما كانت التطوّرات المهمّة المتلاحقة في ميادين الإقليم. ولا يمكن فصل التوقّعات بشأن ما يجري في اليمن والعراق وحتى إيران نفسها، عن الزلزال السوري.
خلال 72 ساعة كرّت مفاجآت ووقائع ترخي بثقلها على الواقع الجيوسياسي. فدمشق محور رئيسي لصناعة المعادلة الإقليمية المقبلة التي تحتاج إلى المزيد للتبلور. تناغم لبنان مع الدينامية الجديدة يحتاج إلى خطوات جريئة تُخرجه من المراوحة وتُعيد حيويّته الداخلية وتكرّس خروجه من المحور الإيراني.
فاجأ قائد إدارة العمليات المشتركة في سوريا أحمد الشرع الوفد اللبناني الدرزي برئاسة وليد جنبلاط باستقباله بربطة العنق. إنّه يرمز إلى التحوّل نحو الحياة المدنية والسعي إلى استعادة سوريا انتظام مشهدها السياسي بعدما ألغى البعث وآل الأسد الحياة السياسية فيها. فبلاد الشام كانت، حتى ما قبل بدء عصر الانقلابات العسكرية فيها، أواخر خمسينيات القرن الماضي، تعيش تحت نظام برلماني ديمقراطي. يومها كان الازدهار والنموّ صنو البلدين. وكانت اللعبة السياسية السورية تجري ضمن المؤسّسات الدستورية، إلى أن حوّلها حكم البعث عام 1963 إلى صحراء سياسية بالبطش والقمع.
انشغال بيروت ودمشق بالتّعافي ورمزيّة زيارة جنبلاط
احتاج الأمر إلى تطويع لبنان بالوصاية من أجهزة المخابرات السورية، ثمّ الإيرانية، بالاستناد إلى نفوذ طهران الدمشقيّ، للإمساك بخياراته الإقليمية. ترمز زيارة جنبلاط، وكلمتاه والشرع، إلى الانعتاق اللبناني من براثن الحسابات الإيرانية التي حبست البلدين. كذلك الوفد الحزبي والدرزي الموسّع الذي رافقه والحديث عن إعادة الاعتبار للتنوّع بين مكوّنات البلدين بين الأكثريّات والأقلّيات. وبدا أنّ الرجلين يتطلّعان للتأسيس لعلاقة ندّية بين البلدين، لتصفية أضرار نهج المرحلة السابقة من الهيمنة الأسديّة على لبنان، ثمّ الإيرانية على البلدين. فكلاهما سينشغل مبدئياً بالتعافي الأمنيّ والاقتصادي والسياسي، ومرشّحان لأن يستفيد واحدهما من توأمة هذا التعافي.
دمشق
تشير أوساط سورية واسعة الاطّلاع لـ”أساس” إلى أنّ هناك قراراً سعوديّاً بالانفتاح على الإدارة الجديدة التّبرّؤ الإيرانيّ من الوكلاء… فرصة؟
ربّما نفي مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي في اليوم نفسه للقاء جنبلاط والشرع، وجود “قوات بالوكالة” لطهران في المنطقة، يشكّل فرصة كي تكفّ تدخّلاتها. هذا إذا كان المقصود به تجنّب المزيد من الضربات المباشرة لها التي تلوّح بها إسرائيل ودوائر غربية. فهل “تتبرّأ” طهران بطريقة ما من أذرعها، بحيث يلجأ بعض “الوكلاء” مثل “الحزب” إلى ترتيب أوضاعه بالتناغم مع هذا التراجع الإيراني؟ أم تمهّد للمعاندة بإلزام هذه الأذرع بمقاومة التحوّلات الحاصلة في المنطقة في انتظار ما ستؤول إليه علاقتها مع الإدارة الأميركية الجديدة؟
فتح جنبلاط بانفتاحه على الحكّام الجدد في دمشق الباب على إمكان إفادة لبنان من “سوريا الجديدة”، كما وصفها الشرع. فالأخير أكّد بدوره أنّ سوريا ستكون على مسافة واحدة من الجميع وستحترم سيادة لبنان واستقلاله. وفتح الباب على علاقة سويّة مع “الحزب” بردّه على سؤال عن العلاقة مع شيعة لبنان أنّ هناك “صفحة جديدة مع مكوّنات الشعب اللبناني بغضّ النظر عن المرحلة السابقة”… فهل يتلقّف “الحزب” الرسالة؟
تشذيب اللّحية والحياة الطبيعيّة في الأسواق
سبقت ورافقت وتلت زيارة جنبلاط وقائع تتّسق مع اللحظة الإقليمية المرشّحة لأن تعمّق التحوّلات التي ستلي الزلزال السوري، يمكن ذكر الآتي منها:
– في دمشق من يقول إنّنا قد نشهد قريباً تشذيب الشرع للحيته الكثيفة، أحد مظاهر الانتماء إلى التيّار الإسلامي المتشدّد، لتصبح على الموضة الحديثة. وللقضيّة رمزيّتها أيضاً بالعلاقة مع انفتاح زعيم “هيئة تحرير الشام” على إعادة بناء العلاقة السويّة في المجتمع السوري.
(و) تنسجم مظاهر كهذه مع ما يلمسه زوّار دمشق من اللبنانيين، ولا سيما الإعلاميين، من فرح استثنائي للمواطنين السوريين العاديّين في الأسواق والشوارع بالتحوّل الحاصل. كما يلمس هؤلاء انسياب حرّية الحركة والعادات الاجتماعية المنفتحة في الأسواق والحانات والمطاعم… فلا قيود على المشروبات الكحولية المسموحة مثلاً.
في دمشق من يقول إنّنا قد نشهد قريباً تشذيب الشرع للحيته الكثيفة، أحد مظاهر الانتماء إلى التيّار الإسلامي المتشدّد، لتصبح على الموضة الحديثة – تطلق زيارة الوفد السعودي برئاسة أحد مستشاري الديوان الملكي للقاء الشرع في اليوم نفسه انفتاحاً خليجياً فائق الأهمّية على التحوّل الجديد في بلاد الشام. فالشرع انتقل من قاعة في قصر الشعب في جبل قاسيون حيث التقى الوفد السعودي مطوّلاً، إلى القاعة التي انتظره فيها جنبلاط والوفد الكبير الذي رافقه.
تشير أوساط سورية واسعة الاطّلاع لـ”أساس” إلى أنّ هناك قراراً سعوديّاً بالانفتاح على الإدارة الجديدة. يجري ذلك بموازاة حالة الاختبار التي تجمع عليها الدول العربية الفاعلة لسلوك الشرع وحكومته المؤقّتة حتى آذار المقبل.
نفط سعودي لسوريا
في معطيات هذه الأوساط أنّ الرياض قرّرت تزويد سوريا بجزء من حاجاتها النفطية، بعدما قرّرت طهران الامتناع عن إرسال كمّيات النفط التي اعتادت إرسالها إبّان حكم الأسد. كما أنّ الدول الخليجية التي يمكن أن تقدّم مساعدات في مرحلة تثبيت الأمن وتوفير الخدمات الرئيسة ستعتمد طريق منظّمات الأمم المتحدة.
أمّا المساعدات التي ستقدّم في شكل ثنائي فستتمّ في مرحلة لاحقة. وإذ أعقب ذلك أمس زيارة نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، مهندس نهج “الخطوة مقابل خطوة” في زمن مساعي التطبيع العربي مع النظام المخلوع، الذي رفضها، فإنّ أبرز ما ارتاحت إليه الرياض وعمّان توقّف تهريب الكبتاغون إليهما. فبعد سقوط الأسد الذي كان يرعى هذه العملية ويراوغ في وقفها، انقطع دابر التهريب.
استباق الاستفراد التّركيّ وملء الفراغ الإيرانيّ
وللصدفة أبعادها أن تحصل زيارة الوفد السعودي قبل ظهر اليوم نفسه لزيارة وزير الخارجية التركي بعد الظهر. فبقدر مباشرة الرياض ملء فراغ التراجع الإيراني من سوريا، تؤسّس في الوقت نفسه للدور العربي في مرحلة ما بعد النظام المخلوع، بحيث لا ينفرد الجانب التركي بملء هذا الفراغ. فهناك مواضيع عديدة شائكة تحتاج إلى المعالجة بين دمشق وأنقرة التي تحتلّ قوّاتها جزءاً واسعاً من شمال البلاد.
فتح جنبلاط بانفتاحه على الحكّام الجدد في دمشق الباب على إمكان إفادة لبنان من “سوريا الجديدة” كما أنّ معالجة مخاوفها من وجود قوات “سوريا الديمقراطية” شمال شرق الفرات قد تحتاج إلى دور عربي يساعد في التخفيف من اندفاعة تركيا لحلّ الأزمة مع أكراد سورية بالوسائل العسكرية.
– أفضى الانفتاح الغربي على الإدارة السورية الجديدة، ومنها زيارة مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى بربارة ليف للشرع، إلى قرار بانتظار الأفعال ليتقرّر في ضوئها رفع العقوبات عن سوريا وهيئة تحرير الشام. لكنّ هذا لن يمنع اتّخاذ قرار باستثناء بعض المساعدات الدولية والعربية من تلك العقوبات.
الحوار الوطنيّ: انفتاح على المكوّنات
– سبق للحكومة المؤقّتة أن دعت قبل أيام إلى عقد “مؤتمر وطني للحوار” تتمثّل فيه رموز وقادة القوى والأحزاب والشخصيات السياسية والمكوّنات الطائفية والعرقية السورية. ولقاء أحمد الشرع يوم الأحد مع قريبه نائب الرئيس السوري السابق (ووزير الخارجية السابق في زمن حكم البعث وآل الأسد) فاروق الشرع للمشاركة في هذا المؤتمر، له مغزى تصالحيّ في الوقت نفسه. فعلى الرغم من أنّ الأخير كان تحت ما يشبه الإقامة الجبرية في منزله في دمشق بأمر من بشار، كما تردّد، نظراً إلى تباين موقفيهما إزاء الحوار مع مكوّنات المعارضة منذ 2012، فإنّه يبقى من صلب النظام. وهذا يشير إلى نوع من التسامح مع شخصيّات لم تكن على وئام مع الفصائل المسلّحة والمعارضة.
تؤكّد مصادر سوريّة معنيّة بالدعوات التي يُنتظر توجيهها إلى القوى والشخصيّات السورية للمشاركة في هذا المؤتمر، لـ”أساس”، أنّها ستشمل 1,200 شخصية، وأنّ بعض الشخصيات التي بدأ الاتّصال بها من أجل المشاركة في المؤتمر هي من غير القوى الإسلامية المتشدّدة، وتضمّ ليبراليين ومعارضين عملوا على إسقاط النظام مع أنّهم لم يحملوا السلاح، ومن الطوائف والعشائر والأحزاب كافّة.
تتحضّر سوريا لترتيب شؤونها الداخلية، و”الطريق طويل”، كما قال جنبلاط للشرع في كلمته، فدعا الأخير إلى أن “نعطي فرصة لبعضنا”.
على لبنان وفق القراءة الجنبلاطية للتحوّلات أن يسرع في التقاط فرصة التأقلم معها بانتخاب رئيس للجمهورية يتناغم مع مقتضياتها، بدءاً من تنفيذ اتفاق وقف النار الهشّ في الجنوب.