ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار الأسد.. البيان الختامي للاجتماع الذي ضمّ أعضاء لجنة الاتّصال الوزارية العربية بخصوص سوريا، أي الأردن والسعوديّة والعراق ولبنان ومصر، والأمين العامّ لجامعة الدول العربية، بالإضافة إلى حضور وزراء خارجية قطر والإمارات والبحرين وتركيا، يمثل حدثاً سياسياً بالغ الأهمّية، لهندسة خارطة طريق لمرحلة انتقالية سياسية سلميّة وجامعة.
يجسّد بيان العقبة موقفاً عربياً موحّداً لإعادة فرض القرار 2254 كخارطة طريق محدّدة ومُلزمة للانتقال السياسي في سوريا، وخطوة استراتيجية تهدف إلى منع محاولات تمييع هذا القرار من قبل أطراف إقليمية وعربية داعمة لجبهة تحرير الشام ومراهنة على فرض أجندتها الخاصة بخصوص مستقبل سوريا.
إذا كان إسقاط نظام الأسد بالطريقة التي تمّ بها يُعدّ انقلاباً تركيّاً على مسار سياسي كان يهدف إلى إخراج بشار الأسد ضمن مهلة تراوح بين ستّة إلى تسعة أشهر، فإنّ اجتماعات العقبة تمثّل بدورها انقلاباً على هذا الانقلاب، وذلك للأسباب التالية:
ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار الأسد العرب يستعيدون ملفّ سوريا
1- يعيد البيان الاعتبار للقرار 2254 الذي يتضمّن خطوات واضحة ومحدّدة تشمل وقف إطلاق النار، تشكيل هيئة حكم انتقالية شاملة، صياغة دستور جديد، وإجراء انتخابات حرّة بإشراف أممي. هذا الالتزام يحدّ من محاولات الأطراف الإقليمية تمييع العملية الانتقالية أو تفريغها من مضمونها.
2- يعكس البيان رغبة عربية غالبة في استعادة الملفّ السوري إلى الحاضنة العربية ومنع الهيمنة الإقليمية أو الدولية عليه، حتى وإن جاء هذا التوافق على مضض بسبب تضارب المصالح بين الدول العربية.
3- يشكّل البيان موقفاً واضحاً ضدّ محاولات جبهة تحرير الشام وتركيا وقطر فرض مسارات بديلة تعزّز مصالح فئوية وتؤدّي إلى استمرار الانقسام داخل سوريا.
ليس خافياً أنّ أطرافاً إقليمية تسعى إلى استغلال المرحلة الجديدة في سوريا لفرض ترتيبات سياسية بديلة تخدم أجنداتها الخاصة. فتركيا تراهن على دور حاسم في تشكيل حكومة موالية لها، مستغلّة التحوّلات الراهنة لإعادة إحياء مكوّنات الإسلام السياسي في المشهد العربي. وتسعى، بالتنسيق مع بعض الشركاء الإقليميين، إلى تحويل سوريا إلى منصّة لإعادة تدوير هذا المشروع في المنطقة، وهو ما يهدّد باستمرار الانقسام وإضعاف الجهود الدولية والعربية الرامية إلى تحقيق تسوية شاملة ومستدامة.
وعليه تركّز المجموعة العربية على تثبيت مسار سياسي انتقالي ضمن إطار دولي يمنع أيّ طرف من احتكار القرار، من خلال تمكين المبعوث الأممي ودعوة الأمم المتحدة إلى دعم العملية الانتقالية، وإشراك كلّ المكوّنات السورية فيها.
يشكّل البيان موقفاً واضحاً ضدّ محاولات جبهة تحرير الشام وتركيا وقطر فرض مسارات بديلة تعزّز مصالح فئوية وتؤدّي إلى استمرار الانقسام داخل سوريا الصّراع على سوريا
إنّ أخطر ما يلوح في مستقبل سوريا الآن هو أن يتحوّل هذا البلد إلى رهينة لمصالح ووصايات إقليمية أو أجندات أيديولوجية، فاقدة لأيّ رؤية جدّية لمستقبل سوريا تتجاوز الحلول الجزئية أو المصلحيّة.
وعليه يواجه مسار العقبة تحدّيات كبيرة لتحويل التوافق السياسي إلى خطوات عملية على الأرض تحمي المؤسّسات السورية من الانهيار في ظلّ الفراغ الذي خلّفه سقوط النظام، وتجنّب سوريا تكرار سيناريو الفوضى كما حدث في ليبيا. إضافة إلى ذلك، فإنّ تحقيق المصالحة الوطنية ومنع الفوضى يستوجبان بناء حوار شامل بين المكوّنات السورية كافّة، بعيداً عن الانتقامية، وهو أمر بالغ الصعوبة نظراً للانقسامات العميقة والجرح الكبير الذي خلّفته سنوات الصراع.
تمتدّ التحدّيات أيضاً إلى العمل العربي المشترك نفسه الذي، على الرغم من التوافق السياسي الظاهر، لا يزال يواجه خلافات داخلية بين الدول العربية حول مستقبل سوريا، ومن خلالها حول مستقبل الصراعات العقائدية لأنظمة الحكم.
أخطر ما يلوح في مستقبل سوريا الآن هو أن يتحوّل هذا البلد إلى رهينة لمصالح ووصايات إقليمية أو أجندات أيديولوجية، فاقدة لأيّ رؤية جدّية لمستقبل سوريا تقف سوريا اليوم على أعتاب تجدّد ما يُسمّى بـ”الصراع على سوريا”، لكن هذه المرة بوجوه وأدوات جديدة تختلف تماماً عن تلك التي وصفها باتريك سيل في منتصف القرن العشرين. فإذا كان الصراع آنذاك يدور حول توازنات الحرب الباردة وصعود القومية العربية، وتنافس القوى الكبرى مثل بريطانيا والاتّحاد السوفيتي، إلى جانب دول إقليمية كالعراق ومصر، على النفوذ في سوريا، فإنّ الصراع اليوم يتّخذ شكلاً أكثر تعقيداً، مع تدخّل أطراف إقليمية كتركيا وإيران، ودول عربية وتنظيمات جهادية وأخرى قومية تسعى جميعها إلى رسم مستقبل النظام السياسي في هذا البلد المحوريّ.
الصراع على سوريا بحلّته الجديدة ليس تكراراً للماضي وحسب، بل مرحلة مختلفة تعكس تحوّلات المنطقة والعالم ونسخة أكثر تعقيداً، تعيد سوريا إلى قلب معركة جيوسياسية شرسة.