بناء دولة الاستقلال: العودة إلى سلطة "الكتاب" - بقلم الدكتور سيمون كشر
شارك هذا الخبر
Friday, November 22, 2024
من المؤكَّد أنّ المرحلة المسمّاة بالشهابيّة كانت مرحلة حاسمة في مسارٍ تاريخيّ للبنان-الدولة. لقد أدرك الرئيس فؤاد شهاب أنّ لبنان لا يمكن أن يتقدّم ويتطوّر كدولةٍ مستقرّة وسيِّدة إذا لم يتجاوز أسباب فرقته الداخليّة التي تمزّقه، أي فقدان العدالة الاجتماعيّة في بُعدها الجغرافيّ والشعبيّ، لذا انصبّ معظم عهده في اتّجاه القضيّة الاجتماعيّة.
وإذا كانت الجهود التي بذلتها الشهابيّة لمعالجة نقائص النظام السّياسيّ اللبنانيّ لم تصل إلى نتائجها المرجوّة، فذلك يعود إلى "تعثُّرات" الشهابيّة؛ وإلى أسبابٍ خارجيّة، وإلى عيوبٍ داخل بنيّة النظام السّياسيّ اللبنانيّ.
هذا الـ"لبنان" الذي هو مجموعة حضارات متوائمة، منذ نشأته، كان ولا يزال ملزم بالتوافق بين جميع مكوّناته. والمدعوّ إلى قيادة تلك الورشة هو طبعًا رأس الدولة، أي رئيس الجمهورية الذي لم تنتقص صلاحيّاته بموجب وثيقة الوفاق الوطنيّ أو اتّفاق الطائف، فوحده رئيس الجمهوريّة يمكنه توفير الديناميكيّة التي يحتاجها بلد سريع التغيير، وهذه الديناميكيّة الممكنة بالضبط التي تجعل الرئيس "أعظم تهديد" -بالمعنى الإيجابي- للتوازن التعدّديّ في لبنان، وأداؤه سواء قبل الطائف أو بعده، يعتمد كثيرًا على شخصيّته الجامعة وتمتّعه بشعبيّة معيّنة، وترفُّعه عن المحاصصة والانقسامات، ولعب دوره كرئيسٍ لكلّ البلد ومؤسّساته وسلطاته الثلاث وشعبه بجميع أطيافه ورجوعه للدستور حصرًا!
حين فتحت وثيقة الوفاق الوطنيّ مجالًا يعلو على منطق الصلاحيّات، انتقل أو ارتفع رئيس الجمهوريّة من الصلاحيّات إلى الدور، فبات لديه صلاحيّة فوق الصلاحيّات وتنازعها وتقاسمها، صلاحيّة القيادة المعنويّة للوطن، وحراسة مبدأ القاعدة الحقوقيّة. هو مراقب دستوريّ في كلّ قضيّة ومشروع قانون أو مرسوم، وهو دستوريّ وحقوقيّ قبل المجلس الدُّستوريّ المؤسّسيّ.
رئيس الجمهوريّة هذا يجب أن يكون لديه هدف واحد هو "بناء دولة الاستقلال" بالمعنى الكلّي والكامل للكلمة.
من هنا، أتت معبّرة جدًا كلمة الرئيس فؤاد شهاب في مناسبة عيد الاستقلال عام 1960، حين خاطب اللبنانيين في نهاية كلمته قائلًا: "في ذكرى الاستقلال الذي قيل فيه أنه يؤخذ ولا يعطى، ما أراني إلّا معبّرًا عن تجارب لبنان حين أقول: إن الاستقلال الحقّ لا يؤخذ ولا يعطى. إن الاستقلال يبنى! أيها اللبنانيون، ليس في اللبنانية تمييز ولا امتياز، وليس للبناني على لبناني فضل إلّا بالعمل الصادق. فليكن حبّكم للبنان، وإخلاصكم له، وحرصكم عل استقلاله، عملًا، وعملًا لا يكل. إن استقلالكم هو عمل كلّ منكم، وهو عمل كلّ يوم."
آمن الرئيس فؤاد شهاب بأن الاستقلال هو ورشة بناء دائمًا من خلال كلّ مواطن ومن خلال العمل اليومي لكلّ مواطن أينما حلّ في لبنان، في القطاع العام أو الخاص، في منزله، عمله، مدرسته، جامعته... ففي الخطاب نفسه، دعا الرئيس شهاب اللبنانيين إلى "إدراك الدولة"، فقال لهم بالمباشر "بأن الدولة اللبنانية تمرّ الآن في مرحلةٍ جديدة من مراحل حياتها، هي مرحلة تركيز الحياة اللبنانية العامة على أسسٍ سليمة ثابتة من الحرّية والعدل والعلم، يتعيّن فيها لكلّ لبناني حقّه على الدولة، وعلى المجتمع، من العيش وكرامة العيش؛ ويتعيّن فيها للدولة، وللمجتمع، حقّهم على كلّ لبناني من الولاء وأعباء الولاء"، ليكمل ويقول "بأن معرفة النقص والتذمّر منه نصف الطريق؛ والعمل الجدّي، المشترك، المتعاون، والمخلص، هو النصف الآخر. فلا نقف في منتصف الطريق". ما أشبه اليوم بالأمس!
رأى الرئيس شهاب بأن ركائز الدولة الثلاث هي الحرّية والعدل والعلم، بالإضافة إلى حقوق المواطن والدولة وواجبهما كلّ تجاه الآخر، مع معرفة الاحتياجات والعمل للوصول إلى آخر الطريق في مشروع بناء الوطن، من خلال تحقيق التوازن والمحافظة على هذا التوازن.
عندها نستطيع أن نقيس مدى جديّة وإمكانيّة تغيير سياسيّ في ظلّ مجتمعٍ تعدّديّ كلبنان، وعندها لن تكون التعدّديّة الثقافيّة والاجتماعيّة والدينيّة والطائفيّة عقبات في وجه هذا التغيير كونه يقاد من رأس الدولة، صاحب صلاحيّة القيادة المعنويّة للوطن، وحراسة مبدأ القاعدة الحقوقيّة والمراقب الدُّستوريّ في كلّ قضيّة، والساهر على القواعد الناظمة للحياة العامّة، والمترفّع عن كلّ شيء، والمؤتمن على الدُّستور وواضعًا إياه في أعلى مرتبات مرجعيات حدود المصلحة العامّة!
بالعودة إلى ما يجري اليوم، المطلوب هو عملية لتجليس العقول، والعودة إلى ألف وباء قواعد الإعراب للدستور اللبناني والسياسة اللبنانية... إن روح ونهج فؤاد شهاب يعودان اليوم بعد ستين سنة. هذا النهج الذي لم يفهم يومًا، ولكن في المحصّلة، أثمر بعد ستين سنة من خلال الجيش اللبناني الذي هو جيش لبنان الدولة وليس جيش النظام، كما أثمر بإعادة الساحة العامة التي ما زالت بحاجة إلى الكثير من التطوير والصقل، والعمل على إعادة مفهوم المواطنية التي كان يفتقر إليها فؤاد شهاب لدعم مبدأ الدولة.
ما يحصل اليوم يطرح سؤالًا على كافة الطبقة السياسية إذا كانت في خدمة مواطن أم في خدمة أتباع وزبائن. فالمطلوب اليوم تطبيق القوانين؛ لا يوجد اليوم قانون واحد مطبّق بشكلٍ كامل أو من دون انحراف. فهناك انحرافات كبرى في كثير من القضايا الدستورية التي لا تحتاج إلى علم كبير ولا إلى تفسيرات كبيرة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، ضرب مبدأ تشكيل الحكومات ليصبح كبرلمانٍ مصغّر هو ضحية الميثاقية، وضرب مبدأ التصويت داخل مجلس الوزراء هو أيضًا ضحية الميثاقية، وضرب آلية تأليف الحكومات وتعطيل المؤسّسات هو أيضًا ضحية الميثاقية...
إن قضية حوكمة لبنان على مرّ تاريخه الحديث كانت دائمًا تصطدم بحججٍ يطلقها الساسة ويضعون الحق على اتّفاق الطائف، أو الدستور، أو الصيغة. ما ميّز فؤاد شهاب خلال ممارسة الحوكمة والحكم في لبنان خدم إيجابيًا هذا البلد التعددي من خلال تطبيق القوانين والعودة دائمًا إلى الكتاب (الدستور).
يعاني كلّ نظام برلماني تعدّدي شبيه بلبنان معضلة السلطة autorité في حال ضعف الشرعية légitimité في الثقافة السياسية وحول ثوابت النظام الدستوري وفي حال الخروج عن المرجعية المطلقة "للكتاب"، أي الدستور، حسب تعبير الرئيس فؤاد شهاب. ما يضمن استمرارية ومناعة الدولة هو مبدأ سمو القانون "ودولنة" الثقافة السياسية. إن الدولة المكتملة الصفات الملكية، أي صاحبة السيادة، هي الضمانة الاختبارية والواقعية والمستقبلية لجميع المواطنين من خلال معادلة بسيطة وهي الإدراك بأن الكتاب (الدستور) هو المرجعية الوحيدة عند كلّ استحقاق وعند كلّ شيء يتعلّق بالمصلحة العليا للمواطن اللبناني والدولة اللبنانية. فلنستعد سلطة "الكتاب"!