يقال إن كل يوم يقدم فرصة جديدة للتعلم، ودرس اليوم يدخل مصطلحاً جديداً إلى قاموسنا باللغة العامية وهو: "التخلي الواعي عن أدوار القيادة" في العمل Conscious Unbossing.
وعلى رغم أن هذا المصطلح قد يبدو أشبه برواية أورويلية (مفاهيم قمعية واستبدادية تحدثت عنها مؤلفات جورج أورويل) أو بما قد تبتكره الممثلة الأميركية غوينيث بالترو (المعروفة بالترويج لاتجاهات عصرية وحميات لم يؤكد العلم نجاعتها)، فإنه في الواقع يصف مجموعة متزايدة من المهنيين الشباب في سوق العمل الذين يختارون عدم السعي إلى الترقيات في المجال الوظيفي، ويجدون أنفسهم راضين عن تجنبهم الحلول في مناصب إدارية.
في معجم العبارات العصرية المستخدمة في بيئات العمل، يظهر مصطلح "التخلي الواعي عن أدوار القيادة" إلى جانب عبارات أخرى مثل "الاستقالة الهادئة" Quiet Quitting (عندما ينسحب الموظف عاطفياً قبل أن يبلغ رب العمل باستقالته الرسمية)، أو "أيام الإثنين بالحد الأدنى" Bare-minimum Mondays (بذل الحد الأدنى من الجهد في محاولة لاستعادة التوازن بين العمل والحياة)، و"الاستياء" Resenteeism (بقاء الموظف في عمله على رغم كرهه للدور الذي يقوم به).
من الطبيعي أن يبرز مفهوم التخلي الواعي عن تولي أدوار القيادة بين المهنيين الشباب. فقد كشفت دراسة استقصائية حديثة في بريطانيا عن أن نحو 52 في المئة من أفراد "جيل زد" Gen Z (الأشخاص الذين ولدوا في الفترة الممتدة من منتصف التسعينيات إلى أوائل عام 2010) يقرون بعدم رغبتهم في تولي مناصب إدارية.
في هذه اللحظة، من المؤكد أن كثيراً منكم يهزون رؤوسهم متذمرين من "جيل اليوم" الذي قضى فترة طويلة من أعوام نموه أمام الشاشات وما إلى ذلك.
لكن عندما نستمع إلى أسباب هذا الجيل في الابتعاد عن الترقيات الوظيفية، نجد أنها منطقية للغاية. فهم يرون أن التقدم الوظيفي يعني زيادة في الضغط والتوتر، ويعتقدون أن المسؤوليات المتزايدة لا تتماشى مع المكافآت المالية لتبرير الضغوط المرتبطة بها. وبالنسبة إليهم، إن الترقية الوحيدة التي تستحق التفكير هي تلك التي تعطي الأولوية للعناية الذاتية بدلاً من زيادة الراتب الأعلى.
لا نبالغ إذا قلنا إن الرغبة في "التخلي عن تولي أدوار القيادة" في بيئة العمل موجودة منذ أعوام، ربما منذ أن بدأنا في تنظيم أنفسنا ضمن مؤسسات كبيرة. فإنها اكتسبت زخماً أكبر في عصرنا الرقمي ما بعد جائحة "كورونا".
عندما كنت في موقع إداري متوسط، لم أستمتع بتلك التجربة على الإطلاق. فقد كانت ساعات العمل طويلة، والضغوط تلقي بثقلها من كل اتجاه (أحياناً كان من الصعب تحديد أيها كان الأكثر ضغطاً)، والتوقعات بأن أكون "موجوداً بصورة دائمة" في المكتب، كانت مرهقة. كما أن لدي كثيراً من الأصدقاء الذين شاركوني الشكاوى نفسها في شأن الإدارة، لا بل إن بعضهم عانى الإرهاق بصورة كبيرة.
ديفيد ديسوزا مدير التطوير المهني في "معهد تشارترد للأفراد والتنمية" Chartered Institute for Personnel and Development (CIPD) (جمعية مهنية لإدارة الموارد البشرية وتنمية الأفراد في المملكة المتحدة) لفت إلى أن "الأبحاث أظهرت أن المديرين المتوسطين هم المجموعة الأكثر احتمالاً لقول إن عبء العمل غير قابل للإدارة، وأن عملهم يؤثر في صحتهم النفسية. وغالباً ما تترافق هذه الأدوار مع مساءلة كبيرة عن أداء أعضاء الفريق ورفاهية الموظفين، من دون التمتع بالمكافآت العالية التي تأتي مع الأدوار العليا أو قلة المسؤولية في الأدوار الأقل".
ربما يتعين علينا أن نكون ممتنين لـ"جيل زد" لأنه وضع أخيراً مصطلحاً لمفهوم ظل لفترة طويلة غامضاً بين أفراد القوى العاملة، وسبب لهم إزعاجاً، سواء كانت تلك القوى على دراية به أم لا.
في مواجهة أزمة التوظيف، أصبحت الشركات أكثر انسجاماً مع الموظفين وإصغاء لمطالبهم. والواقع أن إزالة طبقات الإدارة غير الضرورية لا تسهم في خفض الكلف المالية فحسب، بل تساعد أيضاً على تمكين الموظفين، من خلال منحهم مزيداً من السلطة والمرونة في اتخاذ القرارات. ويسهل هذا النهج إزالة العقبات التي تحول دون الإبداع، وتعزز القدرة على الوصول إلى كبار المديرين القادرين على التعرف على الأفكار الواعدة والاستفادة منها التي قد تضيع أو يتم تجاهلها وهي في طريقها إلى أعلى السلسلة.