من بشير الى شكر… من أمسكَ الهاتف؟-بقلم أنطوني جعجع
شارك هذا الخبر
Tuesday, September 10, 2024
علا الصراخ فجأة في المكتب المجاور لمكتب بشير الجميل في ما كان يعرف آنذاك بـ “المجلس الحربي” الى الحد الذي دفع الأخير الى استطلاع الأمر شخصياً، ليجد المرحومين ايلي حبيقة رئيس “جهاز الأمن” في “القوات اللبنانية” وجان ناضر قائد منطقة الأشرفية في حال عصبية صاخبة.
سأل البشير عما يجري بين الرجلين، فأجابه حبيقة: انني أحذر جان من وجود شاب مشبوه يدعى حبيب الشرتوني في الشقة التي تعلو مباشرة بيت الكتائب في الأشرفية لكنه يرفض أن أتولى أعمال التحقيق والتفتيش.
ورد ناضر قائلاً: ان شؤون الأشرفية هي من صلب مسؤولياتي وأعرف شخصياً عائلة الشرتوني التي لا أجد بينها مَن أو ما يثير الشكوك أو يشكل مصدر خطر من أي نوع.
تدخل “الباش” في شكل حاسم قائلاً: “ما بدي عياط هون حلّو المسألة بين بعضكم”. وانصرف الى أعماله متجاهلاً أخطر عمل أمني معشش في منزله.
لم يدرك بشير الجميل في تلك اللحظة أن ثمة مصادفة سماوية كانت تنذره من خطر محدق ينتظره في عقر داره، وهو الذي كان يغوص في كل التفاصيل من أصغرها الى أكبرها.
ربما في مثل هذه الأقدار، يختار القدر أن يكون الى جانب الجاني لا الى جانب الضحية، فأكمل حبيب الشرتوني مهمته مدعوماً من مثلث سوفياتي- سوري- فلسطيني يقوده من موسكو يوري أندروبوف القائد السابق لجهاز الاستخبارات السوفياتية “كا جي بي”، ومن دمشق الرئيس حافظ الأسد وشقيقه رفعت، ومن الأقبية الفلسطينية “أبو أياد”، ومرفقاً بتمويل سخي من العقيد معمر القذافي وشبكة عملاء تولت تأمين التخطيط والمعدات التقنية المطلوبة لمثل هذه العمليات التي لا تحتمل أي خطأ أو أي تأجيل.
كان هذا المثلث ينتظر اللحظة الأكثر الحاحاً لتنفيذ عملية الاغتيال، وهي اللحظة التي جاءت بالجيش الاسرائيلي و”حلف الأطلسي” الى بيروت، وانتخبت بشيراً رئيساً للجمهورية، وسط انهيار شبه كامل في المنظومة السوفياتية وحلفائها في لبنان.
والسؤال هنا كما في كل عمليات الاغتيال السابقة، هل تحتاج أعمال التحقيق دائماً الى محاكم دولية أو الى محققين خارقين كي يصل التاريخ الى حقيقة يكتبها بعيداً من التكهنات والفرضيات؟
في جلسة عقدها صحافيون مع نائب الرئيس السوري آنذاك عبد الحليم خدام لمح الأخير رداً على سؤال يتعلق باغتيال بشير، الى أن في الأمر “فضيحة كبيرة” واسترسل في الضحك حتى حدود الشماتة.
ما هي هذه “الفضيحة” التي لم تكشف حتى الساعة والتي يمكن ألا تكشف أبداً؟ هل قصد خدام أن بشيراً تعرض لخيانة من حلقته الضيقة؟ هل قصد أن اسرائيل تخلت عنه بعدما أظهر تردداً في ابرام اتفاق سلام من دون المسلمين؟ وهل قصد أن دمشق كانت قادرة على تجنيد من تشاء داخل “القوات اللبنانية” سواء كانوا من الأبعدين أو الأقربين؟
أسئلة كثيرة، لكن ثمة حقيقة واحدة بالكاد يتطرق اليها أحد وهي الخطوات البسيطة في الشكل التي تسبق بعض عمليات الاغتيال.
يقول أحد المحققين المخضرمين ان التحقيق في عملية اغتيال البشير يمكن أن يبدأ بمن أجرى آخر اتصال معه مطمئناً الى وصوله بخير الى بيت الكتائب، وهو الاتصال الذي سبق الانفجار ببضع دقائق، مشيراً الى أن الأمر ربما يكون مصادفة، لكنه ليس عاملاً قابلاً للاهمال أو الرمي في الأدراج خصوصاً أنه يمكن أن يكون وفر للشرتوني الإذن المطلوب لتشغيل زر التفجير.
ويضيف في ملف آخر: لماذا لم يبنوا على اعلان سليمان فرنجية، وكان وزيراً للداخلية، أن أحداً طلب منه في الحاح ردم الحفرة التي سببها الانفجار الهائل الذي أودى بالرئيس رفيق الحريري؟
ويتابع: ان من أجرى الاتصال كان “أبو عبدو” أي رستم غزالي، ما يعني منطقياً أن الرجل كان متخوفاً من أن يؤدي بقاء الحفرة وأي دلائل أخرى، الى اتهامات قد تطاول كواليس قصر المهاجرين في دمشق، مشيراً الى أن مثل هذا القلق كفيل وحده بتحديد الجاني من دون الحاجة الى محاكم محلية أو دولية.
وأكثر من ذلك، هل سأل أحد كيف علم الجاني بما توصل اليه وسام عيد في موضوع الاتصالات التي رافقت عملية الاغتيال، وقرر التخلص منه على عجل؟ وهل سأل أحد عن العميل الذي جنده الجاني في جهاز “فرع المعلومات”، الجهاز الأكثر حرفية والأكثر حصانة بين معظم الأجهزة الامنية في لبنان؟
وفي ملفي اغتيال جبران تويني وأنطوان غانم، ألم يكن معروفاً من هي الجهة القادرة في مطار بيروت على رصد حركة المسافرين ذهاباً واياباً، أو من هو الطرف القادر على التنقل بالسيارات المفخخة كما يشاء وينشرها غب الطلب في أي مكان من لبنان؟
وأكثر من ذلك، يتابع المحقق، ألم يكن معروفاً من هي الجهة التي يمكن أن تشن حملة اغتيالات وتصفيات تشمل حيثيات مرفوضة أو فاعلة أو مؤثرة من أمثال محمد شطح ووسام الحسن وبيار الجميل وسمير قصير وجورج حبش، اضافة الى لقمان سليم؟ قائلاً: من بديهيات التحقيق ثمة معادلة بسيطة: فتشوا أولاً ودائماً عن المستفيد وبعدها لكل حادث حديث.
ويكمل المحقق سائلاً: من نقل الى الرئيس ميشال عون مخاوف اسرائيل من وجود نيترات الأمونيوم في “العنبر ١٢” في مرفأ بيروت، ومن طلب من رئيس الحكومة آنذاك حسان دياب الامتناع عن تفقد المكان باعتبار البضائع المخزنة بضائع غير خطرة؟
يقال إن من اتصل بدياب معروف، لكن أحداً لم يذكر من طلب منه أن يتصل، ومن طلب منه أن يكذب، وهما أمران يقودان حتماً اما الى الجاني نفسه واما الى الجهة التي تغيب الجاني وتطمس هويته ودوره ومصلحته.
وهنا لا بد من سؤال: ألا تكفي كل هذه الأسئلة لنعرف أن لا حاجة الى لجنة تحقيق دولية لن تعطي من الحقائق أكثر مما حصل عليه لبنان من لاهاي ثمناً لجهد تافه كبّد لبنان ملايين الدولارات ؟
ويختم المحقق قائلاً: ما أصاب كل هؤلاء، ضرب أخيراً في الضاحية الجنوبية عبر اغتيال واحد من أمهر أشباح “حزب الله” هو فؤاد شكر الذي سقط في عملية معقدة أعقبت أيضاً اتصالاً تلقاه الرجل قبل ساعة من اغتياله، وطلب منه الانتقال من مكتبه في الطبقة الثالثة الى منزله في الطبقة السابعة التي قتل في داخلها.
مَن أجرى هذا الاتصال ولماذا؟
حسن نصر الله كشف أنه اتصل بالحاج محسن قبل ساعة من اغتياله، فهل هناك قريب آخر من أكثر الرؤوس اللبنانية المطلوبة أميركياً، تولى هذا الاتصال اما في اطار واحدة من صفقات العرض والطلب، واما طمعاً بالملايين الأربعين التي عرضتها واشنطن لمن يسلمه الى جلاديه؟
أربعة عقود مرت على اغتيال بشير وما زالت أصابع الاتهام تشير الى سوريا مرة والى إسرائيل مرة أخرى، تماماً كما تشير الأصابع الأخرى مرة الى “حزب الله” ومرة الى سوريا ومرة الى ايران ومرة الى اسرائيل ومرة الى مجهول ومرات الى كل هؤلاء دفعة واحدة، لكن الثابت الوحيد في هذا البلد أن الجاني يجب أن يبقى مجهولاً، وأن المحقق يجب أن يكون كاتماً، وأن الشعب يجب أن يبقى محتاراً، وأن الحقيقة يجب أن تبقى مطمورة مع الضحية تحت التراب.
هذا هو لبنان البلد الذي يتجاهل صوابية الشبهات ويتذرع بغياب الأدلة، والقضاء الذي يبدي تفوقاً لافتاً على الكثير من محترفي طمس الأسرار، ومنها اغتيال الرئيس الأميركي جون كينيدي في الدولة التي تحصي أنفاس الناس في كل زاوية من زوايا العالم، وتسكن معهم في مخادعهم وحتى في أقبيتهم.