البطريرك اسطفان الدويهي مفكر سياسي طليعي- بقلم السفير يوسف صدقة

  • شارك هذا الخبر
Thursday, September 5, 2024

يعتبر البطريرك اسطفان الدويهي ، من اعظم البطاركة الموارنة ، منذ مؤسس الطائفة البطريرك يوحنا مارون ، فكان علاّمة عصره ، وقد ألف كتبا في مجال الكتب الطقسية واللاهوتية، كتاب العظات ، الكتب التاريخية وأهمها " تاريخ الازمنة " ، وهو المؤلف التاريخي الاول لتاريخ لبنان والمنطقة ، وضعه الدويهي في اطار تاريخ المنطقة والتاريخ الاسلامي ، ويعتبر مرجعاً أساسياً عن تاريخ جبل لبنان والمنطقة.
تعلم الدويهي في المدرسة المارونية في روما ، وتخرّج حاملاً شهادة الملفنة في الفلسفة واللاهوت. تعمّق في التاريخ الاوروبي ، وفي مسألة نشوء الممالك وفي تكوين الامم الاوروبية ، والصراعات الدولية، وكذلك الصراعات الدينية ، مما مكنه من اكتساب ثقافة سياسية وتاريخية واسعة ، اعانته في كتابة المؤلفات التاريخية، وفي رؤيته لقيام وطنه لبنان عبر تعزيز العلاقة بين الموارنة ومختلف مكونات الشعب اللبناني من مسيحيين ومسلمين ودروز.
يعد البطريرك الدويهي من الرجال العظام في معتقد ابن سيراخ ، " من الذين كانوا أئمّة الشعب بمشوراتهم وبفهم كتب امتهم . فنالوا مجدا في أجيالهم ، وكانت ايامهم ايام فخر وقد خلفوا اسما يخبّر بمدائحهم".

مسيرة الدويهي الكهنوتية
عيّن الدويهي في حلب عام ١٦٦٣ بعد خدمته في اهدن، وقد قام برسالته الرعوية خير قيام، وعزز التعاون المسكوني مع مختلف الكنائس المسيحية من روم ارثوذكس وروم ملكيين وسريان كاثوليك وارثوذكس . كما تعاطى مع المسلمين في حلب، وتعرف على التاريخ الاسلامي وعلى الشريعة الإسلامية . وقد كان يقيم الذبيحة الالهية لأتباع وقناصل الدول الاوروبية، حيث كان يشرح وضع الاقليات في الشرق ، ويطلب دعم الدول الاوروبية للجبل والموارنة.

انتخب الدويهي بطريركاً للطائفة المارونية عام ١٦٧٠ وقد عارض انتخابه بعض أعيان كسروان ومنهم الشيخ ابو نوفل الخازن ، وذلك لعدم التشاور معه مسبقا بعملية الانتخاب، لكن البطريرك زار فيما بعد كسروان ودارة الشيخ ابو نوفل الخازن وأعاد اللحمة والوفاق مع اعيان آل الخازن .

هذا وقد تلقى البطريك درع التثبيت عام 1672 من قداسة البابا . استقبل في مقر اقامته في قنوبين سفير ملك فرنسا لويس الرابع عشر Marquis de Nointelفي اسطنبول عام ١٦٧٤، حاملا رسالة دعم للموارنة ، وقد منحه البطريرك هدية من خشب الارز الى الملك الفرنسي، فيكون الارز عربون محبة وصداقة بين الموارنة وفرنسا. ولم تات زيارة الماركيز صدفة الى قنوبين ، بل سبقها مراسلات بين الدويهي والملك لويس الرابع عشر، خاصة انه عرف اهمية الدور الفرنسي بين الامم الاوروبية. اشتهر الدويهي بثقافته السياسية وعرف أهمية العلاقات الدبلوماسية والتواصل مع فرنسا، والتي اعتبرت وقتها " الابنة الحنونة للكنيسة الكاثوليكية" . وكانت السلطة الفرنسية تقدر وتحترم خريجي المدرسة المارونية في روما وعلى رأسهم الدويهي والسمعاني والصهيوني...

ولم يتوان البطريرك في فترة ولايته ، عن إرسال موفدين اكليريكيبن ومدنيين الى المسؤولين في فرنسا ، طالبا المساعدة على حماية المصالح المارونية لدى السلطات العثمانية في اسطنبول، وكذلك تعيين أعيان موارنة قناصل لفرنسا في بيروت ، لأن ذلك يرفع من شأن الطائفة المارونية في الجبل.

معاناة البطريرك من جباة الضرائب التابعين لولاية طرابلس
ترك البطريرك الدويهي قنوبين ، نظراً لظلم جباة الضرائب من آل حماده وجورهم على الموارنة في الجبة ، فالتزم بأن يترك دير قنوبين في اوائل سنة 1675 عائدا الى كسروان ، حيث سكن في دير مار شليطا ، في حمى الشيخ أبو نوفل الخازن ، حامي تلك المنطقة . وقد كان لوفاة الشيخ ابي نوفل الخازن الوقع الأليم على الدويهي وذلك في عام 1680.

وظل البطريرك نظراً للمعاناة والظلم ، في انتقال دائم من قنوبين الى كسروان ، وذلك احتماءً من ظلم الحكام الحماديين .

لم يمكث البطريرك طويلاً في كسروان ، فبعد موت الشيخ ابي نوفل الخازن ، حاول بعض الاعيان التدخل في امور الطائفة . فآثر الدويهي الارتحال عن كسروان ، قاصداً الحكام المعنيين في دير القمر حيث استأجر من الامير احمد المعني بلدة مجدل المعوش ، حيث أقام سنتين ، أقام خلالها علاقات المودّة والاحترام المتبادل مع الموحدين الدروز وقد نال الاحترام والتقديرمن الأمراء المعنيين في دير القمر ، وعاد الدويهي بعد اقامته في الشوف الى قنوبين .

في العام 1693 واجه الدويهي مضايقات من اولاد الشيخ احمد حماده ، حيث أتى كبيرهم الشيخ عيسى حماده الى قنوبين ، وفرض مبلغاً خيالياً من المال ، مخالفاً الضرائب الدورية ، لم يستجب البطريرك ، فغضب عيسى المذكور ولطمه على وجهه وألقاه على الارض . كتب البطريرك الى الشيخ حصن الخازن عن إهانة آل حماده له ، عندها توجه الشيخ درغام الخازن على رأس ماية من الخيالة الى دير قنوبين وفي نيّتهم أن يأتوا بالبطريرك الى كسروان ، واذ علم عيسى حماده بذلك ، جاء اليهم متوسلاً وطلب الغفران من البطريرك . عفا الدويهي عنه وطلب من آل الخازن عدم التعرّض له ولأتباعه .

وعند انتخاب البابا Inochensio XI عام 1676 على كرسي روما ، ارسل له البطريرك الدويهي رسالة ، يعبر فيها عن خضوع الشعب الماروني للحبر الروماني ، وذكّر بمعاناة الموارنة في الجبال من ظلم وتصديات، وختم رسالته بما يلي:
" لموارنة هم وحدهم من عانوا الصعوبات والاضطهادات وقد تشبّثوا بايمانهم في الشرق محافظين على الامانة الرومانية البطرسية بين جميع ممالك الشرق ، وما من احد اطاع تعاليمكم وتوجيهاتكم غيرنا وقد نكون اضطهدنا كثيراً بسبب خضوعنا للكرسي الروماني".

اما البطريرك ، فقد ارسل الى ملك فرنسا لويس الرابع عشر رسالة ، يطلب فيها ان يتوسط له لدى الباب العالي لرفع التعديات عن البطريركية والطائفة المارونية.
وقد رد الملك الفرنسي على رسالة البطريرك الدويهي : " اني مستعد دائما للدفاع عن الدين الكاثوليكي الروماني في كل مكان، وبالخصوص ضمن حدود بطريريتكم ، وطلبت من سفيري لدى الباب العالي العثماني لينال منه ما يعود الى خير الدين الكاثوليكي في بلاد الموارنة ، عندها تشعرون بمفاعيل حمايتي وتاكيدي على اعتباري لشخصكم الكريم ..."
الدويهي يفتح الطريق لاستقلال الوطن
رسم البطريرك الدويهي الطريق الى استقلال لبنان، لجمعه العناصر الكفيلة لتوفير الارضية المادية والروحية ، والاسس الموضوعية لبناء الدولة العتيدة.
عرف الدويهي بالانفتاح على المسلمين على الرغم من الاضطهادات التي لحقت بطائفته في البيئة الاسلامية الطابع الخاضعة للدولة العثمانية. وقد تناول في تاريخ الازمنة تاريخ المسلمين باحترام وتقدير . حرص الدويهي في كتبه التاريخية على تناول مسألة الاقليات ومعاناتها فى الانظمة الشمولية، كما عمل في نفسه ووجدانه على التحضير لبناء الوطن ، فأعدّ الارضية الناشئة لا سيما التواصل مع الجماعات المختلطة ،التي تتعايش على رقعة جغرافية واحدة، وقد عمل على اكمال مشروع الوطن المستقبلي بمواصلة إرث المعنيين انسجاماً مع سياسته على توحيد المناطق اللبنانية.
اضطر الدويهي الى مغادرة كرسي قنوبين اكثر من مرة بسبب مظالم اقترفها جباة الضرائب الحماديين .
لقد انتقل الى قرية مجدل المعوش بالقرب من الامراء المعنيين وتعايش مع الدروز على المودة والاحترام، كان لهذا التعايش الاثر العميق في تأسيس تراث وطني للجبل كقاعدة لبناء وحدة وطنية مبكرة.
وقد اعتبر المؤرخ دكتور طانيوس نجم " ان لبنان في عهد الدويهي بدأ يرتسم جغرافيا حول نواة هي جبل لبنان ديموغرافيا وسياسيا ، يشكل الموارنة احدى مكوناته السياسية. بحيث بدأ يتحقق ويتسع تدريجيا عبر التحالفات السياسية بين المكونات الطائفية التي تتعايش فيه في مناخ متناغم من التعاون والتوافق".
وقد أوجد التعاون الضيق بين الموارنة وطوائف اخرى في جبل لبنان برعاية المعنيين ولا سيما فخر الدين حسّ وطني جماعي لن يتوانى من التطور لتشكل النفس الذي لابد منه لنشأة أمّة وطن ، وقد عبّر عنه د. نجيم حيث كان يمثل الهاجس الرئيسي في رؤية الدويهي للموارنة والجبل.

وفي قراءة دقيقة لمسيرة الدويهي ، يعتبر الدويهي سياسيا ودبلوماسيا محنكاً عمل على حماية الطائفة المارونية في ظل العواصف والمآسي ووضع حجر الاساس لبناء الوطن اللبناني .