المسيحيّون ولعنة الانفراط- بقلم د.ميلاد متّى

  • شارك هذا الخبر
Saturday, August 17, 2024

يشهد اللبنانيون اليوم - ومنهم المسيحيّون خصوصاً - حالة متفاقمة من الفرط والانفراط الحزبي والفكري والسياسي، ولبنان تتلاطمه أمواج عاتية تنفخ فيها أعاصير العقائد والثقافات والحضارات. عقائد وثقافات مستوردة غريبة عنه، هدفها استراتيجيّ يبغي محو تاريخه ونضال أبنائه طوال عصور من الاضطهاد، واستبداله بتاريخ حديث العهد تكتبه قوة الأمر الواقع العسكرية والسياسية، من حَمَلة الهوية اللبنانية الورقية وذوي الانتماء الثقافي والروحي الخارجي.
أقول حالة "فرط وانفراط". وهما مصدران من فعل فرط (مجرّداً ومزيداً) الذي يحمل من تعدّد المعاني واتّساع المفاهيم ما يصوّر الحالة بدقّة وشمول.
وأختار من معانيه: "القول من غير رويّة، والتفرّق والتبدّد، والتقصير والضياع والتضييع، والعجز، والذهاب والفوات، بما فيه فوات الوقت، والنسيان والترك، والانحلال، والانقراض، والإسراف، وتجاوز الحدّ في المديح أو الهجاء أو الأذى، وتحميل ما لا يطاق". حقل مفهوميّ هو مرآة لأوضاع اللبنانيين. فحسرةً على ما وصلوا اليه من الضعف والعجز والضياع، وحزناً على تفرّقهم وتبدّدهم.
يتحمّل قادة المسيحيين، وهم موضوع كلامنا، وزر هذه الأوضاع جمعاء بنسب متفاوتة. كما يتحمّلها المؤيّدون والمطبّلون والمتقاتلون من أجلهم، سواء كان اختيارهم نابعاً من محبة عمياء، أم تصديقاً لوعود أو حلول، أو تأثّراً ببعض المديح المثير للعنفوان والغرور (كما في "يا شعب لبنان العظيم")، أم جهلاً في مهارات القيادة، أم سذاجة، وربما، والله أعلم، انجذاباً أو افتتاناً أو ولهاً بوسامة أو بما يسمّى "كاريزما".
لست أدري إذا كان هؤلاء القادة قد نسوا – ولا أخالهم - أن من ثبّت ركائز هذا الوطن أوّلا، هم الأجداد المسيحيّون، وفي طليعتهم الموارنة، فأصبحوا ولبنان صنوين. حفروا الصخر وسكنوا الوعر. زرعوا الجبل وخاضوا حروبه، ثم حوّلوا لبنان الجبل الى لبنان الكبير، والإمارة الى جمهورية، وظهر منهم في القرن الماضي، رجال ونساء فكر وأدب وفن وقيادة، أين منهم قياديو اليوم. نترحّم على البطريرك الحويّك صانع لبنان الكبير، وبيار الجميّل من أوائل رجالات الاستقلال والبازل الرخيص والغالي في حمايته وصاحب "شرعة العمل" ، وكميل شمعون (فتى العروبة الأغرّ)، اللائق واللبق والمحنّك السياسي والمتسامح. وريمون إدّه، الشجاع والصلب والمشرّع والمتمسّك بالقانون حتى العظم، وصاحب البصيرة الحكيمة. وفؤاد شهاب، أب المؤسّسات (الفارطة اليوم)، النظيف والمتواضع والزاهد في إغراءات السياسة والراغب عن المجالس والصناديق والعقود وخزائن المصارف.
هؤلاء المتميّزون، وغيرهم من شركاء الوطن، ناضلوا في سبيل الاستقلال، وجعلوا لبنان ينعم بالسلام والبحبوحة لعقدين من الزمن سمّي خلالهما بسويسرا الشرق أو منارته، الى أن كانت ظروف وحوادث حتّمت على المسيحيّين أن يخوضوا حرباً وجودية لخمس عشرة سنة اجتمع عليهم فيها القريب والبعيد واللاجىء والمرتزق. وقد تجاوز خلالها الصراع بين قادتهم حدً الشراسةً والدمويةً والأذى: تارة من أجل التوحيد، وطوراً بسبب الثأر والثأر المضاد، وتارة أخرى بدافع االتنازع على السلطة والقيادة. لكنهم خرجوا منها محقّقين فعل وجود كان ثمنه باهظاً استشهاداً وهجرةً ونزوحاً. فعل وجود كان ولا يزال حتى الساعة على المحك.
وكأن ما عانوه من صراع القادة لم يكن كافياً، فقد أتاهم قبل دقائق من انتصاف ليل 22 ايلول سنة 1988 – معيّناً بمرسوم رئاسي - قائد الجيش الماروني رئيساً لحكومة عسكرية انتقالية مهمتها انتخاب رئيس للجمهورية. وبدلا من أن يتجرّد من هوى الرئاسة والزعامة ووحل السياسة اللبنانية فيقوم بمهمته محاولًاجمع اللبنانيين لانتخاب رئيس، طلع على المسيحيين زعيماً وفارساً ومخلّصاً، فكان أن أغرقهم في الضياع والتضييع و الانحلال وتحميل ما لا يطاق في حربين عبثيتين "دون كيشوتيّتين"، تجاوز فيها الحدّ في الهجاء والأذى، كما كثرت فيها الأقوال والقرارات المتسرّعة من دون رويّة. وقد سميّتا التحرير والإلغاء: إلغاء المليشيات المحلية والتحرير من الجيش السوري، أنتجتا مزيداً من دفع أثمان الانحلال والعجز تجلّيا في دقّ مسامير مؤلمة في جسد المسيحيين، فباتوا خمس عشرة سنة أخرى من دون قادة، ضائعون مفكّكون. كان عهد الرئاسة الأول فيها رهناً لرئاسة الحكومة، بينما كان العهد الثاني في خصام دائم معها.
وما لبثت أن انقلبت الأوضاع بعد الاغتيال الصادم لرئيس الحكومة آنذاك في 14 شباط سنة 2005 ، فرجع القادة أنفسهم ليعيدوا كتابة فصول الفرط، من استرجاع العداوات، وتبادل الهجاء. وقد وصل الإمعان في التباعد والخصومة والتحدّي والسعي الى المنفعة الشخصية ما جعل العماد "فارس طواحين الهواء" يتحالف مع حليف عدوه في حرب التحرير حتى يُقعِده قصر بعبدا. وكذلك ليتّفق مع عدوه في حرب الإلغاء من أجل قسمة الوزارات ولحس عسلها. إلا أن العسل صار بصلاً حاراً، إذ ما لبثا أن قلبا ظهر المجن "ليمحو الليل كلام النهار"، وليمرّ عهد على اللبنانيين هو من أكحل وأظلم العهود فساداً، وامتهاناً لكرامتهم، ومحطماً لآمالهم، ومبدداً لجهد حياتهم: "نام فيه العماد الفارس ملء جفونه عن شوارده، وسهر الخلق جرّاه واختصم"، موكّلاً الصهر بالشغل. وإذا بالصهر الفايش والفَيوش والمتفيّش يُغرق قومه و تيّاره، في لعنة الفرط والانفراط، كما "يتفرّق القوم أيدِيَ سبا".
هؤلاء هم بعض قادة المسيحيّين والموارنة بالتحديد. فللمؤيّدين والتابعين نقول: "أنتم قرّرتم وأنتم اخترتم". ولست أدري إذا اختبرتم فاتّعظتم. وللقادة نقول: "أعلامُ أرضٍ جعلتموها بطائحا". وسيّد القوم أشقاهم وأخدمهم وأحرصهم. فإذا لم تبادروا الى التسامح والتصالح والاتحاد والتعاضد كرزمة أغصان لا تنكسر، فالمصير الفوات والترك، والانحلال، والانقراض ، والمسيحيّيون في طريقهم إليه. وسيتبدّدون في أصقاع الأرض كما تبدّد من سبقهم حتى بات من في الخارج أضعاف من في الداخل. وهناك عيون على هذا التبدّد أصحابها منتظرون غير مستعجلين. وستبكون ملكاً ومكانةً ما عرفتم الحفاظ عليهما.