خطّة ماكرون لتأليف الحكومة: تقسيم اليسار.. وترميم الوسط- بقلم محيي الدين الشحيمي

  • شارك هذا الخبر
Friday, July 19, 2024

نتجت عن الانتخابات التشريعية في فرنسا محصّلتان:

– الأولى إيجابية: وهي الإطاحة باليمين المتطرّف وتقويض فرضية وصوله إلى السلطة والحُكم. أي أنّه مُنع من إحكام قبضته على أزمات الحكم في المؤسّسات الفرنسية.

– الثانية سلبية: ظهر في عاصمة الأنوار “برلمان غير حاسم” يفتقر إلى السلاسة الإنتاجية. وبالتالي فقد تعرقلت الديمقراطية عبر آليّاتها التطبيقية.



انقسمت الغرفة الفرنسية التشريعية الثانية إلى ثلاث جمعيات وطنية مختلفة، مستقلة ومتضاربة فيما بينها. أضحت الجمعية الوطنية الفرنسية “برلمان الأقلّيات الثلاث”، مع ثلاثة أشكال من ائتلافات القوى السياسية المتقاربة فيما بينها، والمتساوية عددياً إلى حدّ ما. تحسب كلّ واحدة منها مجلساً نيابياً بحدّ ذاته. تلوح من بين أروقتها مشهديّات العرقلة السياسية والتشريعية، وذلك للأسباب الآتية:

– تتنافس البرلمانات الثلاثة تشريعياً مع ارتفاع معيار الجدل الدستوري والتباعد السياسي بين مختلف الكتل.

– تختلف عقائدياً على شكل الدولة الفرنسية وقيمها المؤسّسة.

– تنقسم حول الأفكار الوطنية.

– تتصارع على تحقيق الأهداف الأيديولوجية المختلفة.

– تتعاون في المتاهات، وتتمايز من خلال القناعات.

انقسمت الغرفة الفرنسية التشريعية الثانية إلى ثلاث جمعيات وطنية مختلفة، مستقلة ومتضاربة فيما بينها
يزعم رئيس كلّ كتلة أنّ تحالفه هو الأكبر والأقوى والأثبت. وهذا له سببان:

1- انعدام الثقة بين كلّ المكوّنات السياسية المحلّية.

2- أنّ حجم التصويت ربّما لم يكن المعيار الأكثر أهمّية.

نجاح تحالف الجمهوريّة الانتخابيّ فقط

نجح تحالف ماكرون الرئاسي، مع القوى التي تعارض “لتجمّع الوطني” اليميني، في الهندسة الانتخابية. كانت الأولوية لقطع الطريق على اليمين المتطرّف. فأثبتت سياسة انسحاب المرشّح الثالث في الدوائر غير المحسومة في الجولة الأولى نجاعتها. وذلك من خلال إبرام اتفاق الحفاظ على قيم الجمهورية العليا المؤسّسة مع مختلف قوى الوسط واليسار الجديد. وهذه الوصفة هَزمت اليمين المتطرّف. وحرمته العديد من المقاعد. وضيّعت عليه فرصة الظفر بالأغلبية المطلقة.

لكن في المقابل تقدّم اليمين المتطرّف في التمثيل، وضاعف عدد مقاعده. لكنّه لم ينتصر، ولم يحصل على أيّ نوع من الأغلبية. فكان أن جنح نحو المعارضة. إنّها عشقه الأوّل، فهو لا يعرف السلطة ولا الحكم أيضاً. لكنّه لن يكون مسهّلاً في البناء التنفيذي.

أيضاً فقد ماكرون عدداً كبيراً من مقاعده في التحالف. لكنّه ربح معركة صمود الجمهورية وقيمها. أحبط صعود اليمين، على الأقلّ مرحليّاً. كسر موجاته على رصيف الإليزيه. حظي تحالف اليسار العريض بكلّ منح وعطايا الملل الفرنسي من الوسط الحاكم، من أخطاء التحالف الرئاسي، ومن الخوف والنفور الدائمين من اليمين المتطرّف، فنال الأغلبية النسبية بأقلّ جهد ممكن.

تقدّم اليمين المتطرّف في التمثيل، وضاعف عدد مقاعده. لكنّه لم ينتصر، ولم يحصل على أيّ نوع من الأغلبية
صعوبة التّوافق التّنفيذيّ

تظهر هذه الصورة طبيعة الصعوبة التنفيذية، وشكل الحياة الحكومية المقبلة على أروقة المؤسّسات الفرنسية. وتفتح بوّابة معركة تأليف الحكومة على مصراعيها. أراد إيمانويل ماكرون أن يقول إنّه هو الرئيس، هو من يسمّي رئيس الحكومة. إذ يمنحه الدستور صلاحية تسمية رئيس الوزراء. لكن يُلزمه أن يقدّم شخصية تحظى بالمقبولية لكي تتجاوز قطوع حجب الثقة. إنّه امتحان صعب وينبغي تجاوزه بأقلّ الخسائر الممكنة. لا يجبره أيّ أمر على الاستعجال أمام عدم وجود أغلبية مطلقة ضامنة لاستمرارية الحكومة حالياً.

وهنا يحاول الرئيس ماكرون تجاوز مفهومين أساسيَّين هما:

– كتل متساوية وصغيرة. تعجز كلّ كتلة وحدها عن تشكيل الحكومة. لذا ينبغي الولوج إلى نوع من التحالف البنّاء والعقلاني.

– هاجس إيجاد مناعة تامّة تمنع سقوط الحكومة. خصوصاً مع افتقاد هذا النوع من الحكومات، إذا ولدت، للحاضنة النيابية الصريحة. ستكون حتماً عرضة للّوم وحجب الثقة عنها. فلا توجد كتلة صنديدة تحميها.

استغلال نقاط ضعف اليمين واليسار

يستغلّ الرئيس ماكرون نأي اليمين نحو المعارضة، وتخبّط كتلة اليسار العريض. هم إلى الآن غير متّفقين على ترشيح شخصية محدّدة لمقام الوزير الأوّل. قد يؤثّر هذا السلوك غير الديمقراطي في العمق لأنّه يؤخّر تحقيق نتيجة الانتخابات عملياً على الأرض. فيما هو إجراء دستوري قد كفله الدستور ونصّت عليه صلاحيات الرئيس ودوره الحامي والضامن في النظام السياسي الفرنسي.

يلعب رئيس الجمهورية دورين متناقضين:

– الحكَم بين جميع الكتل والمكوّنات والأحزاب كأنّ النظام الفرنسي قد جنح ناحية العقيدة البرلمانية.

– لاعب جوهري وأساسيّ ورئيسيّ وصارم في اختيار الرئيس الجديد. وهذا ما تفرضه عليه القوانين والأنظمة الفرنسية في النظام نصف الرئاسي.

بدأ تحالف الكتلتين الرئاسية واليسارية مع هندسة الانسحابات خلال الانتخابات لمنع وصول مرشّحي اليمين شكّلوا “تحالف الجمهورية” من أجل إسقاط اليمين المتطرّف. انتهى التحالف مع نتيجة الجولة الثانية وإبعاد اليمين. لم يؤسّس لتحالفات سياسية أعمق أو تعاون تنفيذي شامل. إنّه تعاون انتخابي ومرحليّ فقط. من شأن هذه الخطوات خلق عدّة إشكاليات بوجه العهد الرئاسي:

– شعور سلبي لدى الناخبين الذين انتخبوا بكثافة، مع الإحساس وكأنّهم لم ينتخبوا، فيما هم من انتخاب إلى انتخاب، ومن استحقاق إلى آخر، والنتيجة لا شيء.

– صراع العهد الماكروني بين إشكالية احترام الشرعية التشريعية من خلال استبعاد الكتلة الأولى، ونيلها أكثر من المشروعية السياسية، حيث يشكّل حرمان الكتلة اليسارية من تسمية الرئيس قفزاً فوق نتيجة الانتخابات البرلمانية. وهذا طعن في الشرعية التشريعية وتحدّي لخيار الشعب مصدر السلطات.

– اعتبار تأليف أغلبية انتقائية وجديدة تتألّف من التحالفين مخاطرة لأنّه يعطي انطباعاً بأنّه يلتفّ على النتائج، وهو ما يؤثّر في العمق على مشروعيّته السياسية.

تأخّر الرئيس ماكرون في خطابه. لم يكن ردّاً على نتائج الانتخابات فقط، بل شكّل إجابة مباشرة على تحالف اليسار العريض
تحالف حماية الجمهوريّة

تأخّر الرئيس ماكرون في خطابه. لم يكن ردّاً على نتائج الانتخابات فقط، بل شكّل إجابة مباشرة على تحالف اليسار العريض، وبشكل خاصّ على رئيس حزب “فرنسا الأبيّة” جان لوك ميلونشون الذي كان قد أعلن حقّه في دخول “قصر ماتينيون” رئيساً للحكومة كثمرة لفوز تحالفه وكتلته مع تقدّمه النسبي في الانتخابات.

يعمل ماكرون على نسج تحالف قيصريّ، هجين من اليمين والوسط، من خلال إقناع مجموعة من القوى السياسية المرتبطة بقيم الجمهورية. يحفّز استمالتها على الانخراط في حوار جدّي يهدف إلى تدعيم النظام وتحصين الانتظام العامّ.

يسعى من أجل محاولة بناء أغلبية قويّة متعدّدة القناعات والاختلافات، متنوّعة القواعد، تحت مظلّة قوس الجمهورية.

هي مرحلة التعاضد من أجل حماية النصوص المؤسّسة للجمهورية الخامسة، والضامنة لاستمرارية النظام المؤسّساتي والتشريعي والإداري
تقسيم اليساريين… وترميم الوسط

يحاول الرئيس ماكرون إيجاد توازن بين الحفاظ على سلطته وبين تشكيل حكومة قادرة على العمل في ظلّ برلمان يغلب عليه التشرذم والتفتّت. يسعى ماكرون إلى إحداث انشقاق داخل التحالف اليساري العريض أو الجبهة الشعبية الجديدة عن طريق إبعاد الاشتراكيين والخضر عن حزب “فرنسا الأبيّة”، ومحاولة إقناعهم بالدخول في تحالفه الذي أخفق في الحصول على أغلبية وأضحى بمنزلة أقلّية، ليصبح غالبية أعضاء الحكومة من معسكره. يريد ترميم الوسط من جديد والتركيز على الشراكة مع المجتمع المدني والمؤسّسات الأهلية.

فيما أضحت الجمهورية الخامسة محصورة بين أشباح اليمين المتطرّف وفزّاعات اليسار الراديكالي، يشدّد ماكرون على أنّ القوى الجمهورية هي التي تشكّل فقط الأغلبية المطلقة. هي لطشة غير مباشرة لكلّ القوى المتطرّفة بأنّها خارج “تحالف الجمهورية”، حيث لا تتناسب أفكارهم مع ميراث الجمهورية.


هي مرحلة التعاضد من أجل حماية النصوص المؤسّسة للجمهورية الخامسة، والضامنة لاستمرارية النظام المؤسّساتي والتشريعي والإداري. على الرغم من كلّ ذلك، دخلت الإدارة الفرنسية بحقّ “نفق ومأزق” تسمية رئيس الحكومة. فهل ينجح ماكرون في تطويقها وحلّها والمحافظة على انتظام المؤسّسات؟ أم أنّ الإدارة الفرنسية مقبلة على درب جلجلة تسمية الوزير الأوّل وتأليف الحكومة الجديدة؟

المعركة طويلة وسيناريوهاتها متنوّعة ومتشعّبة. قد تمتدّ إلى أكثر من شهر. فمن يعلم؟!

أساس ميديا