"هآرتس": إسرائيل لا تتصرف كمَن يريد التطبيع

  • شارك هذا الخبر
Wednesday, February 21, 2024

تحت عنوان "إسرائيل لا تتصرف كمَن يريد التطبيع، بل كمَن يخاطر باتفاقيات السلام القائمة"، جاء في "هآرتس":

"عملياً"، جزم أمس في ميونيخ وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين، "كل الدول العربية تريد دمج إسرائيل في المنطقة من أجل تطبيع علاقاتها معها وتقديم ضمانات أمنية لها، بحيث تستطيع إسرائيل الشعور بأنها أكثر أماناً".

مبادرة الرئيس جو بايدن، التي صاغها وزير خارجيته، تشترط تحقيقها بإقامة دولة فلسطينية، لكنها غير متكاملة. من المشكوك فيه أن تكون لبنان، التي يملي حزب الله وإيران سياستها، اليمن الخاضعة بأغلبيتها لحكم الحوثيين، العراق التي أصبحت دولة شقيقة لإيران، أو سوريا التي لها حسابات إقليمية منفردة مع إسرائيل، ستسارع إلى عقد اتفاقيات سلام مع إسرائيل، حتى لو أقيمت دولة فلسطينية مستقلة.

غير أنه ما زال من السابق لأوانه التدقيق في حيثيات هذه البشرى وتفاصيلها، بينما وقع التعهد الذي تضمنته أصلاً على آذان صمّاء في إسرائيل، وخاصة بسبب الثمن السياسي الباهظ الذي يترتب عن تطبيقها. الحرب في غزة، التهديد بعملية واسعة النطاق في رفح، المُطالَبة بتقييد دخول المصلين إلى المسجد الأقصى خلال شهر رمضان، الذي يبدأ بعد 20 يوماً، التقييدات على إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع ـ هذه الأمور، معاً، توضح أن المسار المفضّل لدى الحكومة في الوقت الراهن هو ليس التطبيع. في الواقع، الحكومة على استعداد للمخاطرة باتفاقيات السلام التي قد تم التوقيع عليها مع مجموعة من الدول العربية.

لم يُجدّد بلينكين شيئاً حين عرَض المبادرة. فقد لخّص جوهر ما ورد في قرار جامعة الدول العربية في قمة بيروت من العام 2002: مقابل انسحاب إسرائيل من جميع المناطق التي احتلتها في العام 1967، موافقتها على الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة في حدود 1967، بما في ذلك قطاع غزة، وعاصمتها القدس الشرقية، إلى جانب تحقيق حل عادل لمشكلة اللاجئين بموجب قرار الأمم المتحدة رقم 194، تؤكد الدول العرب على أنها "سترى (في ذلك) نهاية الصراع الإسرائيلي ـ العربي وستوقع على اتفاقية سلام مع إسرائيل وستضمن الأمن لجميع الدول في المنطقة؛ وستُقام علاقات طبيعية مع إسرائيل في إطار اتفاقية السلام الشاملة هذه".

قريباً، ستنقضي 22 سنة منذ اتخاذ ذلك القرار التاريخي الذي أصبح يشكل جزءاً لا يتجزأ من أية صيغة يتم اقتراحها لإنهاء الصراع. لكن خلال تلك الفترة كلها، لم يحظ هذا القرار بدعم أمريكي تطبيقيّ وعاجل مثلما هو حاصل خلال الأشهر الأخيرة. "صفقة القرن" التي عرضها الرئيس دونالد ترامب في العام 2020، والتي كانت تستند ـ من بين ما كانت تستند إليه ـ إلى المبادرة العربية والتي أثمرت سلاماً تاريخياً بين إسرائيل ودولة الإمارات العربية المتحدة، البحرين، المغرب والسودان، لقاء تنازلات أمريكية، سياسية واقتصادية ـ لكن ليس تنازلات إسرائيلية ـ لم تُرسِ أية قاعدة واقعية لإنهاء الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، ولم تكن قادرة أصلاً على أن تشكل أساساً لسلام شامل مع جميع الدول العربية، على النحو الذي يعرضه بلينكين الآن. والأهمّ من ذلك، أن حملة التطبيع التي قادها ترامب هي التي أعطت إسرائيل المبرر النهائي للتوقف عن أي انشغال بالقضية الفلسطينية. فقد شكّلت، من وجهة نظرها، إثباتاً على أن إسرائيل قادرة على تحقيق اتفاقيات سلام مع دول عربية حتى بدون حل القضية الفلسطينية. بدون انسحاب من المناطق واقتلاع مستوطنات، بل وحتى بدون الانسحاب من هضبة الجولان، التي تَرِد كبندٍ في المبادرة العربية.

هذه المعادلة المريحة والكاذبة حطّمتها الحرب في قطاع غزة، والتي تُلزم إسرائيل الآن بتقديم إجابات عملية على المطالب المحدَّدة، التي تطرحها الآن الولايات المتحدة وفي أعقابها الدول الأوروبية. خلافاً لخطة ترامب، أو المفاوضات السابقة، التي جرت أو تم إملاؤها "من وفق" كجزء من رؤية أو طموح لتحقيق إنجاز سياسي أيّاً كان، فإنّ مبادرة بايدن الحالية ـ وبعد أن كان في طريقه للخروج من الشرق الأوسط ـ هي هذه التي يمليها الميدان "من تحت" على خلفية احتياجات حيوية ومُلحّة تطورت من أسس تكتيكية إلى خارطة طرق استراتيجية. هذه الاحتياجات تشمل الإفراج عن المختطَفين، والمشروط بوقف إطلاق النار لفترة طويلة أو وقفاً تاماً ونهائياً؛ الخطر المحدق بنحو 1,5 مليون إنسان من سكان قطاع غزة المهدَّدين بهجوم مكثف؛ ضرورة إيجاد حل معقول لأكثر من مليون إنسان بدون مأوى؛ القلق المصري من اختراق الحدود نحو سيناء؛ واشتعال المواجهات عند الحدود الشمالية مع لبنان واتساعها إلى حرب بين دول وإقليمية.

من الضروري التوضيح هنا أن مسألة المخطوفين ليست المحور الذي تدور حوله المركّبات الأخرى في هذه المواجهة. فالمعركة على رفح ومُخرَجاتها التي تنطوي على تهديدات، كما مراحل القتال السابقة، هي جزء لا يتجزأ من خطة العمل التي تحمل عنوان "تقويض حماس"، أو باسمها المُفخَّم "النصر المُطلق". لم يشكل المخطوفون حائلاً أمام القتال حتى الآن، وإن أردنا الحكم بناء على تصريحات وزراء في الحكومة، القاعدة التي يستند إليها نتنياهو و"متحدثين" وأبواق في وسائل الإعلام، فإن المخطوفين يتحوّلون، تدريجياً، إلى "ضرر بيئيّ" بالإمكان الاستغناء عنه. يبدو الآن أن الكارثة الإنسانية التي أنزلتها إسرائيل بسكان قطاع غزة والتي من المتوقع أن تتفاقم هي التي تحرّك الخطوات الاستراتيجية والكوابح التي من شأنها، ربما، أن توقف استمرار الهجوم وأن تفرض وقف إطلاق النار. هذه كلها موجودة في واشنطن، التي يساورها القلق من جراء تعاظم واتساع الانتقادات المحلية على موقفها المتسامح حيال إسرائيل، وكذلك من احتمال تورط عسكري عميق، أكثر بكثير من ذاك الذي غرقت فيه، في المنطقة كلها.

كلما اتضح في واشنطن أن اليوم التالي غير مُدرَج في لائحة التقويم الإسرائيلية، فإنها تضطر إلى وضع برنامج عمل استراتيجي خاص بها ومحاولة إملائه على نتنياهو. والنتيجة هي أنه من موقعها كدولة عظمى كان من المفترض أن تتمثل مساهمتها الأساسية في الردع من مغبة شن هجوم متعدد الجبهات على إسرائيل وتوفير حزام أمني تصريحيّ من خلال استعراضات القوة (إضافة إلى المساعدات المالية والعسكرية الضخمة)، تضطر الولايات المتحدة الآن إلى أن تدير بنفسها ساحات الصراع المختلفة واستخدام الإدارة الجزئية بغية تفكيك وإبطال التهديد الاستراتيجي الإقليمي الذي نشأ في قطاع غزة.

نجاح هذه الجهود السياسية مرهون الآن بمدى استعداد السلطة الفلسطينية، "مُجدَّدة" كانت أم "مُرَمَّمَة"، لأن تأخذ على عاتقها المسؤولية عن إدارة الأمور في قطاع غزة، في النواحي المدنية على الأقل، وبموافقة إسرائيل على أن تتيح للسلطة أن تكون بمثابة حكومة مدنية. محمود عباس، الذي يمكن اعتباره ذا خبرة ومهارة في قراءة الفرص التاريخية، لكنه ليس بالضرورة قائداً يجيد عدم تضييع هذه الفرص، وضع شرطاً أساسياً لعودته إلى غزة: ليس وقف إطلاق النار فحسب، والذي هو ضروري جداً من أجل سير الحياة المدنية في القطاع، وإنما أيضاً الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة، أو على الأقل اتخاذ خطوات عملية جوهرية ومستديمة غير قابلة للردّ تمهيداً للاعتراف بها، مثل عقد مؤتمر دولي.

في مقابلة مع صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية الأسبوع الماضي، عرض عباس بعض التفاصيل: "يجب البدء بإعداد الحل السياسي الذي يقوم على أساس قرارات الأمم المتحدة والمبادرة العربية. يبدأ الإجراء بالاعتراف بدولة فلسطين التي تحظى بمكانة كاملة في الأمم المتحدة، عبر قرار مجلس الأمن، عقد مؤتمر سلام بضمانات دولية وجدول زمني محدد لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي على أرض فلسطين، وتكون عاصمتها القدس الشرقية في حدود العام 1967، من أجل تحقيق حل الدولة الفلسطينية وفق معادلة الدولتين للشعبين".

هذا هو، الآن، الموقف الصلب الذي تتخذه أيضاً السعودية التي تبدّل، عملياً، موقفها السابق من فترة ما قبل الحرب، حين كانت مفاوضات التطبيع على وشك أن تنضج، والذي كان يقضي بأنه يكفي اتخاذ بعض الإجراءات التي من شأنها تحسين ظروف حياة الفلسطينيين. هذا الطلب الفلسطيني يحظى الآن بتأييد واشنطن وفرنسا التي صرّح رئيسها، إيمانويل ماكرون، أمس، بأن "الاعتراف بدولة فلسطينية لم يعد يشكل تابو من ناحيتنا. نحن مدينون للفلسطينيين بهذا، وإلى جانبهما أيضاً بريطانيا التي أوضح وزير خارجيتها ديفيد كاميرون أن "الشروع في إجراءات للاعتراف بدولة فلسطينية ليس جائزة للإرهاب". حملة التأييد هذه سوف تتسع وتتكثف حتى تتحول إلى قرار مُلزم يصدر عن مجلس الأمن، بينما لا تملك إسرائيل أية خطة عمل، سوى التصريحات الفارغة.