جعجع ومنيمنة وقعقور.. ويسار الستينات

  • شارك هذا الخبر
Wednesday, March 29, 2023

لم يُعرف حتّى اللحظة متى تم تصوير هذا الفيديو، لكنّ انتشاره خلال اليومين الماضيين كان كفيلًا بإطلاق عاصفة من السجال القوّاتي- التغييري. رئيس القوّات اللبنانيّة، في كلمة له عبر الإنترنت، يتحدّث عن النائبين إبراهيم منيمنة وحليمة قعقور: هما جيّدان جدًا كأشخاص، هم من الإيديولوجيين بالاتجاه الآخر، المعاكس لحزب الله، لكنهما "بغير دني". يريدان الوحدة العربيّة، وتحرير فلسطين، ولديهما حساسيّة مفرطة على كل شيء كان موجوداً. أفكارهما بعيدة جدًا عن كل ما نعيشه اليوم، هما يعيشان في الستينات. أتذكر الستينات؟ (يخاطب محاوره) "كيف كان الجو بين اليسار والناصريين؟ هيك عايشين".

مغزى تهمة يسار الستينات
حسنًا، كل ما يعرف إبراهيم وحليمة، يعرف بُعدهما عن الخطاب الذي يتحدّث عنه جعجع. يصعب العثور على تصريح واحد لأحدهما حول موضوع تحرير فلسطين، أو الوحدة العربيّة، أو العروبة بشكل عام، أو أي كلمة يُمكن أن توحي بالناصريّة وما يتصل بالخطاب القومي العربي.

لا يمكن العثور على نبرة مناهضة للإمبرياليّة أو الاستعمار، أو غيرها من المرادفات التي اعتادت الناصريّة وما اتصل بها من إيديولوجيّات على إطلاقها. هما أصلًا، لم يأتيا من خلفيّات عروبيّة أو قوميّة، لا يوجد في سيرتهما ما يدل على ذلك. لم يقاربا كل هذه الأجواء العتيقة، لا في ماضيهما ولا في حاضرهما، ولا في الحلقات اللصيقة التي تعمل معهما.

إذًا، ما مغزى هذا "الصيت" بالذات؟ لماذا هذه العبارات والصفات بالتحديد؟ ولماذا إبراهيم وحليمة بالذات؟ لما لم يشمل في كلامه مثلًا فراس حمدان، أو سينتيا زرازير، اللذين لا يقلّان حذرًا من القوّات عن إبراهيم وحليمة، واللذين لم يصوّتا بدورهما لميشال معوّض، طالما أن الكلام في الفيديو كان عن الاستحقاق الرئاسي وسبب "عدم وحدة المعارضة".

واضح أن الجانب الأوّل من الموضوع متصل بالتنميط الطائفي تحديدًا. سنيّان معارضان، يتركان مسافة تجاه القوّات ومشاريعها، ويحتفظان ببعض الأولويّات المتصلة بالعدالة الاجتماعيّة. في السياسة، أنت بحاجة لتسويق التمايز حسب المعيار الذي يناسبك، قبل أن يسوّق الآخر معياره. وما الذي يناسب جعجع، أمام شارعه، أكثر من وصمهما بصورة السنّة المتأخرين عن زمانهما، العالقين في أحلام ماضي الطائفة وإيديولوجيّاتها المندثرة؟

ومع ذلك، ثمّة جانب آخر ينبغي الالتفات إليه، عند استخدام "اليسار" كوصمة إيديولوجيّة يُراد منها تسخيف أو حرق الرأي الآخر هذه الأيّام. فهذه الوصمة، باتت عبارة يتكرّر ذكرها على ألسنة لوبي المصارف في الإعلام والسياسة، لمواجهة وحرق أصحاب الطروحات المناوئة للوبي المصارف في المجلس النيابي والسلطة والقضاء والإعلام. ولا يغيب عن بالنا أن ثمّة من سبق جعجع إلى توجيه "تهمة" اليسار المتطرّف إلى منيمنة، على خلفيّة مواقفه الاقتصاديّة، وهو ليس سوى النائب وضّاح الصادق، التغييري "العصري"، الأكثر قربًا إلى لوبي المصارف وجعجع في الوقت نفسه.

الطريف في الموضوع، هو أن ما يعتبره جعجع والصادق يسارًا، ليس سوى ما تكرّر ذكره مرارًا وتكرارًا في تقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لجهة أولويّات إعادة هيكلة المصارف وتوزيع خسائرها، وتحييد المال العام عن عمليّة إعادة الهيكلة، وغيرها من المعايير التي باتت معروفة للجميع. لكن، على من تقرأ مزاميرك يا داود؟

ما لا تراه القوّات
لا يوجد حاجة للتذكير بأن كل منيمنة وقعقور امتلكا -منذ ما قبل الانتخابات- ما يكفي من مواقف تؤكّد سياديتهما، بمعايير القوّات نفسها. الموقف من سلاح حزب الله واضح، والموقف من الأنظمة الديكتاتوريّة المحيطة بلبنان أوضح. ما الذي يقدمانه نائبا التغيير، إضافة إلى ما تقدّمه القوّات في الطرح السياسي؟ وأين هو التمايز الفعلي، بمعزل عن ما يقوله جعجع؟

التمايز الأهم والأبرز، يكمن تحديدًا في الملفّات المرتبطة بالانهيار المالي. فمنذ حصول الانهيار، لم تختلف مقاربات نوّاب القوّات، عن تلك التي حملها كل من علي حسن خليل وإبراهيم كنعان ونقولا نحّاس، وغيرهم من عتاة وكبار لوبي المصارف في المجلس النيابي. وهذا الدور الذي لعبه المجلس في إعاقة الحلول، لحساب اللوبي المصرفي بالتحديد، هو تحديدًا ما أشار إليه آخر بيانات صندوق النقد الدولي. وهذا تحديدًا ما يفسّر اعتبار التغييريين نوّاب القوّات جزءاً من التركيبة التي تحرص على المصالح الماليّة، المتشابكة ما بين المنظومة السياسيّة والنخبة الماليّة.

ما لا تراه القوّات، هو أن الخروج من السلطة لا يعني أوتوماتيكيًا الخروج من المنظومة، بمعنى شبكة المصالح الأوسع التي يرعاها النظام. وأن هذه الفكرة بالتحديد، هي ما يفسّر التمايز الذي يزعج جعجع، وهي ما يدفعه إلى تفسير الاختلاف باستحضار أشباح الستينات وعناوينها واستقطاباتها.

هذا الواقع، لا يعني حتمًا عدم تعاون التغييريين ببراغماتيّة مع نوّاب أي حزب داخل المجلس على القطعة، وحسب الملف التشريعي المطروح، ومنهم نوّاب القوّات. وهذا ما جرى في ملف انفجار المرفأ على سبيل المثال، حين اتخذ مدعي عام التمييز القرارات التي أطاحت بالتحقيق. لكنّ هذا الواقع أيضًا، يفرض على جعجع احترام أسباب تمايز نوّاب التغيير، التي ترتبط بملفّات حسّاسة من شأنها تقرير مصير اقتصاد البلاد والدولة والمجتمع.

أمّا الأهم، والذي يفترض أن يفهمه جمهور القوّات جيدًا: إن المناداة بالسيادة، التي يطالب بها نوّاب التغيير تمامًا كنوّاب القوّات، يستدعي أكثر من رفع الشعار كمادّة للاستهلاك الإعلامي. فهذا يستدعي أيضًا مناهضة المشاريع التي ستؤدّي إلى تفكيك الدولة وتحلّلها، والتي ستطيح حتّى بإمكانيّة "الحلم" بدولة ذات سيادة على كامل أراضيها. كما يستدعي مناهضة المشاريع التي ستدفع البلاد باتجاه الخراب الاقتصادي والاجتماعي، الذي يمثّل البيئة المثلى للاقتصاد غير الشرعي وتمدّد القوّة الخارجة على سلطة القانون. وهذا الاتجاه، يفرض أولًا طرح خطاب اقتصادي إنقاذي واضح، تمامًا كالذي يطرحه بعض نوّاب التغيير اليوم. أمّا تبنّي طرح اللوبي المصرفي، فلن يكون إلّا مساهمة بدفع المجتمع باتجاه المزيد الفوضى غير البنّاءة أبدًا، والتي لا تصب حتمًا في صالح أي مشروع سيادي.

بصورة أوضح: إن الخطاب الاقتصادي الإنقاذي الذي يتبناه كل من منيمنة وقعقور، ليس تقليلًا من شأن سيادة الدولة كمطلب وأولويّة، ولا افتعالًا لاستقطابات سطحيّة تحت عنوان "الهم المعيشي"، بل هو معركة أساسيّة لا يمكن من دونها أن تكتمل "المعركة السياديّة" التي تدّعي القوّات خوضها.

علي نور الدين - المدن