هل ما انتهت إليه أفغانستان يتكرر في أوكرانيا؟- بقلم هدى الحسيني

  • شارك هذا الخبر
Thursday, June 19, 2025

في مقال عميق، يرسم ماتين بيك، رئيس ديوان الرئاسة الأفغانية السابق وأحد أبرز مفاوضي السلام، مقارنة صارخة بين تدخل الولايات المتحدة في أفغانستان ودورها المستمر في أوكرانيا. ومن خلال تجربته الشخصية، يطلق تحذيراً واضحاً: «واشنطن قد تكرر أخطاءها الكارثية في كابل ما لم تعِ دروس الماضي وتعيد ضبط بوصلتها الاستراتيجية».

منذ بداية الحرب في أوكرانيا، لاحظ بيك نمطاً مألوفاً: دعماً عسكرياً وخطابياً قوياً من الولايات المتحدة، يليه تعب سياسي وارتباك استراتيجي. هذا المسار، كما يشير، يشبه إلى حد بعيد ما حدث في أفغانستان، حيث تحوّل الالتزام الأميركي دورةً من الاعتماد ثم التخلّي. في الحالتين، مارست واشنطن نفوذاً هائلاً، لكنها فشلت في توظيفه بذكاء واستدامة.

ينتقد بيك تركيز إدارة جو بايدن المبكر على الدعم العسكري على حساب العمل الدبلوماسي. فبينما ساهمت الأسلحة والدعم الاستخباراتي في صد الغزو الروسي في المراحل الأولى، فإن غياب أي جهد دبلوماسي متوازٍ جعل احتمالات التسوية السلمية ضئيلةً أو معدومة. ورغم عدم ضمان تجاوب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع أي مفاوضات، فإن تجاهل هذا الخيار تماماً كان، برأي بيك، تقصيراً استراتيجياً خطيراً.

وقد أدى هذا النهج إلى ترسيخ اعتماد أوكرانيا على الغرب – وتحديداً الولايات المتحدة – في كل شيء من التسليح إلى الاقتصاد والاستخبارات. وهذا الاعتماد، متى ما أصبح شرطاً للبقاء، يتحوّل سلاحاً ذا حدين، خصوصاً في ظل تقلبات السياسة الأميركية الداخلية. وتهديدات ترمب المتكررة في حال عودته إلى البيت الأبيض في وقتها بوقف الدعم لكييف، يعيد إلى أذهان بيك هشاشة كابل خلال مفاوضات «طالبان» مع الإدارة الأميركية. ويرى أن سياسة واشنطن وقتها همّشت الحكومة الأفغانية وشرعنت خصمها، وهو ما قد يتكرر اليوم مع أوكرانيا.

المقال يرصد ثلاثة أوجه تشابه جوهرية بين النهج الأميركي في أفغانستان وما يجري اليوم في أوكرانيا، ويقدمها دروساً يجب عدم تجاهلها.

أولها: حصر المفاوضات مع العدو. في الحالتين كلتيهما، أصرّ الخصم – «طالبان» وروسيا – على التفاوض مع واشنطن مباشرة، من دون إشراك الحكومة المحلية. سمحت أميركا بذلك؛ ما منح الشرعية للطرف المعادي وأضعف الحليف. ففي كابل، أدى ذلك إلى تآكل مصداقية الدولة وانهيارها في نهاية المطاف. واليوم، إذا تفاوضت واشنطن مع موسكو من دون كييف، فقد تجد الأخيرة نفسها مستبعدة من مستقبلها السياسي.

ثانيها: تشويه صورة الحلفاء علناً. في أفغانستان، وجّه المبعوث الأميركي زلماي خليل زاد انتقادات حادة للرئيس أشرف غني، وعدَّه عائقاً للسلام. هذا الخطاب أثّر سلباً على المعنويات وعمّق الانقسامات الداخلية. يرى بيك أن هناك نبرة مشابهة تظهر أحياناً تجاه الحكومة الأوكرانية في تصريحات بعض المسؤولين الأميركيين، وهي نبرة تهدد بتكرار الأثر المدمر نفسه.

ثالثها: استخدام المساعدات أداةَ ابتزازٍ سياسي. التهديد بقطع الدعم – كما فعل الرئيس ترمب ودوائر في الكونغرس – لا يعزز السلام، بل يغذي التردد والانقسام. في أفغانستان، أدّى الانسحاب الأميركي المفاجئ إلى انهيار كامل. وفي أوكرانيا، يخشى بيك من أن وقف الدعم قبل التوصل إلى سلام دائم قد يؤدي إلى مصير مشابه.

لتجنّب تكرار سيناريو كابل، يقدّم بيك توصيات محددة تستند إلى التجربة. أولاها: ضرورة عدم تهميش أوكرانيا في أي عملية سلام. على واشنطن ألا تتفاوض نيابةً عن كييف، ولا أن تقبل تسويات تنتقص من سيادتها. يجب أن تكون الحكومة الأوكرانية وشعبها في صميم أي اتفاق، لا متفرجين على ترتيبات خارجية.

كذلك، يشدّد بيك على أهمية الرسائل السياسية والإعلامية. فانتقاد الحلفاء علناً في أوقات الحرب يرسل إشارات خاطئة، ويضعف الجبهة الداخلية، ويقوّي أعداء يستفيدون من الانقسام. وتحتاج الولايات المتحدة إلى إظهار الوحدة والاتساق والاحترام، سواء في التصريحات العلنية أو خلف الأبواب المغلقة.

في نهاية المطاف، يحمّل بيك واشنطن مسؤولية استراتيجية وأخلاقية؛ كونها قوة عظمى يفترض عليها أن تختار نوع الإرث الذي تتركه. هل تكرر أخطاء «صفقة الدوحة» التي خلّفت فوضى وانهياراً؟ أم ترسم مساراً جديداً قائماً على الشراكة واحترام السيادة؟

معركة أوكرانيا ليست فقط معركة على الأرض، بل معركة على الشرعية والكرامة الوطنية. ولكي يكون السلام المقبل مستداماً، لا بد أن يكون شاملاً ومبنياً على أسس عادلة، لا على تفاهمات تُملى من الخارج. العالم لا يتحمّل تكرار ما حدث في أفغانستان، وأوكرانيا تستحق سلاماً يكرّم تضحياتها.

في نظر بيك، الدور الأميركي في أوكرانيا ليس مجرد مهمة جيوسياسية، بل اختبار حقيقي لمصداقية واشنطن بصفتها قوةً قيادية. أخطاء اليوم قد تدفع ثمنها أجيال قادمة. ولكن إن أحسنت الإدارة الأميركية التصرف، فقد تكون أوكرانيا نقطةَ تحولٍ تُثبت أن الولايات المتحدة تعلّمت من الماضي، وتستطيع أن تكون شريكاً في بناء سلام حقيقي، لا مجرد لاعب عسكري.

ختاماً، يحذر ماتين بيك من أن الولايات المتحدة، إن لم تعِ دروس الماضي، قد تجد نفسها تعيد مأساة أفغانستان في أوكرانيا. الغطرسة العسكرية من دون استراتيجية سياسية واضحة تؤدي إلى الفشل. فالدعم العسكري، مهما كان سخياً، لا يُغني عن حل سياسي شامل ومستدام يأخذ في الحسبان تعقيدات الهوية والتاريخ والبنية المحلية. في أفغانستان، كان تجاهل واشنطن للمجتمع المحلي وبنائه المؤسسي أحد أسباب الانهيار. في أوكرانيا، الخطر نفسه يلوح في الأفق إذا لم يتم التحرك بذكاء واستباق. المطلوب اليوم ليس المزيد من السلاح فقط، وإنما إدراك أن النصر الدائم لا يتحقق بالقوة وحدها، بل ببناء شرعية طويلة الأمد قادرة على الصمود.


الشرق الأوسط