هل هي آخر الحروب؟- بقلم نديم قطيش

  • شارك هذا الخبر
Monday, June 16, 2025

بدأت في غزّة، وستنتهي في طهران. هذا ملخّص ما تعيشه المنطقة منذ هجوم “حماس”، صبيحة 7 أكتوبر (تشرين الأوّل) 2023. لكنّها ليست حرباً تقليدية، بل حملة مركّبة، متعدّدة المراحل والحلقات، ليس هدفها ردع إيران وحسب، بل تفكيك البنية الأمنيّة والعسكرية والعقائدية لكامل المحور، من أذرعه الرئيسية إلى “رأس الأخطبوط”، بحسب تعبير رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق نفتالي بينيت.



هي فصول حرب واحدة، ممنهجة، ومترابطة، لا مواجهات متقطّعة، من أنفاق “حماس” إلى شبكات “الحزب”، ومن نظام الأسد إلى برنامجَي إيران النوويّ والصاروخيّ، تتقدّم فيها إسرائيل بخطى محسوبة. تبني كلّ ضربة على نتائج سابقتها، وتمهّد لكلّ اغتيال باغتيال، أكان الهدف فرداً أو تنظيماً أو ساحة.

الفصل الأوّل: شرارة يحيى السّنوار

هزّ هجوم 7 أكتوبر أسس الأمن الإسرائيلي، وأطلق في الوجدان اليهودي العامّ “طوفان الذاكرة”، بوصفه أكثر الأيّام دمويّة في التاريخ اليهودي منذ الهولوكوست.

الكثير من تفاصيل هذا الهجوم الدمويّ، المشحون بالرمزيّة، وحقيقة ما خطّط له يحيى السنوار بالفعل، مقابل ما قد يكون وُلد في ساعته، مجهول. الأكيد، والمعلن، أنّ المرشد الإيراني علي خامنئي كان رأس الدولة الوحيد في العالم الذي بارك الهجوم ونتائجه، بلا أيّ تحفّظ، حيال الضحايا المدنيّين. قامر خامنئي بخيار أنّ هذا الحدث سيستعيد لبلاده قدرة الردع بعد سنوات من الاستنزاف المهين، وأسقط من حساباته أنّه سيطلق في إسرائيل ردّ الفعل غير المتوقّع الذي أطلق.

لم تكن حرب إسرائيل على غزّة ردّاً عسكريّاً وحسب، بل لحظة ولادة عقيدة جديدة: “لن يخرج أيّ وكيل إيراني من هذه الحرب سالماً”. مُحِيت غزّة من الوجود أو تكاد، وفُكّكت القيادة العسكرية لـ”حماس” وانتهت الجبهة الجنوبية، التي لطالما اعتبرتها إيران صمام ضغط استراتيجي، على حدود إسرائيل.

لم تكن حرب إسرائيل على غزّة ردّاً عسكريّاً وحسب، بل لحظة ولادة عقيدة جديدة

لم يكتفِ نتنياهو بجولة قصف جوّي لغزّة كما في المرّات السابقة. فقرار العمليّة البرّيّة في تشرين الثاني 2023، وصولاً الى احتلال رفح في أيّار 2024، مروراً بتصفية شبه كاملة للقيادة الميدانية لـ”حماس”، سمح لإسرائيل بتغيير وجه غزّة وموقعها في أيّ دولة فلسطينية مستقبلية، إن تحقّقت.

ما لبث أن تزامن مقتل يحيى السنوار مع مرور سنة وتسعة أيّام على “طوفان الأقصى”، وتوازى مع تصفية حسن نصرالله قبله بفارق نحو ثلاثة أسابيع، لتُستكمل بذلك خريطة الصراع على رمزيّات وسرديّات المعركة وذاكرتها وسرديّات المستقبل، التي اختصرها نتنياهو بأنّها حرب “لتغيير الشرق الأوسط”.

إيران

الفصل الثّاني: شرارة حسن نصرالله

في اليوم التالي لاشتعال غزّة، فتح “الحزب” جبهة جنوب لبنان بحدود مدروسة، تحت عنوان إسناد غزّة. راهن نصرالله أنّه يستطيع إشغال إسرائيل وتشتيت تركيزها، غير عالمٍ أنّ عدوّه منذ اليوم الأوّل لنهاية حرب تمّوز 2006، عمل بلا كلل، على تكوين أكبر بنك أهداف ممكن عن “الحزب” وبنيته وأفراده وقادته وسلاسل إمداده. أجّلت حكومة بنيامين نتنياهو خططاً لضرب “الحزب” بشكل حاسم كان اقترحها في الأسابيع الأولى وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، في الأيّام التي تلت إعلان “الحزب” حرب الإسناد.

منذ كانون الثاني 2024، بدأت إسرائيل تصفية القادة الميدانيين في الصفّين الثاني والثالث في الجنوب والبقاع وبعلبك. كشفت هذه العمليّات عن عمق الاختراق الأمنيّ لبنية “الحزب” العسكريّة، وتهاوت أسماء قادة الرضوان وعزيز وبدر وحيدر ووحدات المسيّرات والصواريخ وغيرها.

بيد أنّ نقطة التحوّل الرئيسية كانت اغتيال القائد العسكري لـ”الحزب” فؤاد شكر، في نهاية تمّوز 2024، في الضاحية الجنوبية لبيروت، في أعقاب اتّهام إسرائيل لـ”الحزب” بقصف بلدة مجدل شمس في الجولان ومقتل 12 مدنيّاً بينهم أطفال قبل الاغتيال بأيّام. نقل اغتيال أحد أقدم وأخطر قادة “الحزب” بدقّة جراحيّة، طبيعة المعركة إلى مستوى غير مسبوق من التصعيد، منذراً بحرب مفتوحة، سرى بين طيّات تصريحات المسؤولين الإسرائيليين وصفٌ بشأنها بأنّها حرب اجتثاث.

بانهيار نظام الأسد، اختلّ توازن المحور الإيراني برمّته. لأوّل مرّة منذ 2011، لم تعُد دمشق فاعلاً جيوسياسيّاً، بل ساحة مستباحة

أذهل الوصول إلى شكر (متبوعاً خلال ساعات بقتل إسماعيل هنيّة في طهران) قادة “الحزب” وأحبط الأمين العامّ حسن نصرالله، بشهادة ابنه جواد في إحدى الإطلالات التلفزيونية. وفيما كان يستعدّ “الحزب” بعد نحو شهر على الاغتيال لتنفيذ ردّه عبر هجوم صاروخي واسع النطاق على إسرائيل، شنّت 100 طائرة مقاتلة إسرائيلية، ضربة استباقية دمّرت آلاف قاذفات الصواريخ التابعة لـ”الحزب” والتي كانت موجّهة للإطلاق.

إيران

لم تكد تمضي أسابيع ثلاثة على صدمة الضربة الاستباقية، حتّى استفاق “الحزب” واللبنانيون والعالم على عمليّة تفجير “البيجرز” وأجهزة الووكي توكي بأيدي نشطاء “الحزب” ومسؤوليه، يومَي 17 و18 أيلول، التي استهدفت نحو 4,000 عنصر من نخبة “الحزب” يغطّون أنشطة مختلفة داخل المنظّمة.

فاقمت هذه العمليّة، وكيفيّة تفخيخ “البيجرز”، القناعة بأنّ “الحزب” مخترقٌ حتّى نخاعه، وأنّ الحرب هذه المرّة ليست من النوع الذي اعتاده. وصلت المعنويّات إلى أدنى مستوياتها وساد الارتباك وشعور عارم بالشلل. خلال الأيّام العشرة التي تلت عمليّة “البيجرز”، اغتيل إبراهيم عقيل، ومعظم قادة “فرقة الرضوان”، وهو ما مهّد للحظة الانهيار القياديّ الشامل حين توّجت إسرائيل عمليّة اجتثاث “الحزب” بقتل الأمين العامّ التاريخي حسن نصرالله في 27 أيلول.

ثمانية أسابيع بين اغتيال شكر ونصرالله فكّكت فيها إسرائيل البنية العسكرية والأمنيّة والتشغيليّة لـ”الحزب” وتابعت بعدها تفكيك البنية الماليّة من خلال اغتيال محمد جعفر قصير بعد اغتيال نصرالله بأيّام، لتُطوى صفحة “الحزب”، المخلب الإيرانيّ، ودرّة تاج الردع المتقدّم على حدود إسرائيل.

خرج “الحزب” من معركة غزّة مهزوماً، ويقف الآن موقف المتفرّج من المعركة التي أُعدّ من أجلها، وهي الدفاع عن إيران إذا ما تعرّضت للضرب.

لم تندلع الحرب المباشرة بين إسرائيل وإيران مرّة واحدة. فحلقات المسلسل البادئ مع “طوفان الأقصى” تداخلت في لحظات دراميّة مهّدت، كما كلّ مرّة، لمعارك حاسمة

إيران

شرارة بشّار الأسد

لم يصمد بشّار الأسد أكثر من عشرة أسابيع بعد مقتل نصرالله. انهار نظامه يوم 8 كانون الأوّل (2024)، بدعم تركيّ واضح. قرأت أنقرة في تفكيك “الحزب” أنّ زمن إيران في المشرق شارف على النهاية، وأنّها اللحظة الحاسمة لها لوراثة الدور الإيراني في الإقليم. دفعت بجماعاتها المسلّحة لاستئناف الحرب بغية إضعاف الأسد أكثر وفرض تنازلات عليه، تعيد تشكيل العلاقة بين الرئيس رجب طيّب إردوغان ودمشق وفق توازنات وقواعد جديدة. بيد أنّ ما تحقّق في سوريا، من سقوطٍ للنظام، فاق ما خطّط له الأتراك وتمنّوه.

لم يكن اغتيال حسن نصرالله ضربةً لـ”الحزب” وحسب، بل كان لحظة انكشاف إقليمي أطاحت بالتوازن الباقي داخل محور طهران. فالرجل ليس قائداً ميدانيّاً وحسب، بل صار، منذ مقتل قاسم سليماني، آخر رابط استراتيجي يجمع بين أذرع المحور في لبنان وسوريا وفلسطين، وبدرجة أقلّ في العراق واليمن.

العدّ التّنازليّ لسقوط الأسد

بسقوطه، فقد الأسد غطاءه الرمزي والسياسي والأمنيّ في آن. لم يعد في دمشق من يحظى بثقة طهران لإدارة المشهد، ولا من يضبط التوتّر بين الحرس الثوري والميليشيات المحلّية، ولا من يوفّر المظلّة السياسية داخل محور “المقاومة”. ومع انهيار “الحزب” وتفكّك شبكاته داخل سوريا، باتت بنية النظام السوري مكشوفة، بلا وساطة، وبلا حماية، وبلا أفق.

لم تسقط دمشق يوم هاجمتها جبهة النصرة، بل يوم خسر الأسد الشخص الوحيد الذي كان يمنحه، في نظر إيران، سبباً إضافياً للبقاء، مدشّناً العدّ التنازلي لانهيار النظام السوري نفسه.

لأكثر من عقد، شكّل نظام بشّار الأسد الحلقة المركزية في سلسلة الإمداد الإيراني الممتدّة من طهران إلى الضاحية الجنوبية. عبر أراضيها مرّت الأسلحة، ومنها انطلقت المسيّرات، وفيها تمركز ضبّاط الحرس الثوري، وعبر مطاراتها شُحنت أنظمة الدفاع والصواريخ الدقيقة والأموال والمستشارون.

لم يكن اغتيال حسن نصرالله ضربةً لـ”الحزب” وحسب، بل كان لحظة انكشاف إقليمي أطاحت بالتوازن الباقي داخل محور طهران

بانهيار نظام الأسد، اختلّ توازن المحور الإيراني برمّته. لأوّل مرّة منذ 2011، لم تعُد دمشق فاعلاً جيوسياسيّاً، بل ساحة مستباحة فتحت الباب أمام سلسلة من التحوّلات الاستراتيجيّة، أخطرها ما يُكشف عنه اليوم، في ضوء استخدام إسرائيل للأجواء السوريّة، المُفرغة من الدفاعات والرادارات، لتعزيز حرّيّتها العملانيّة وتسهيل ضرب العمق الإيراني، عبر خطّ سوريا – إربيل الجوّيّ. فما نعاينه اليوم هو انتهاء دور سوريا “المنطقة العازلة” بين إسرائيل وإيران، وتحوُّلها من مساحة وسيطة إلى ميدان عبور للهجوم على نظام طهران.

شرارة خامنئي

لم تندلع الحرب المباشرة بين إسرائيل وإيران مرّة واحدة. فحلقات المسلسل البادئ مع “طوفان الأقصى” تداخلت في لحظات دراميّة مهّدت، كما كلّ مرّة، لمعارك حاسمة.

حوّلت إسرائيل سوريا إلى مقبرة صامتة لضبّاط الحرس الثوري بعد 7 أكتوبر. انتقلت الهجمات على مخازن السلاح أو قواعد المسيّرات تدريجيّاً إلى حملة اغتيالات ممنهجة استهدفت الضبّاط الإيرانيين الذين يديرون نفوذ طهران في بلاد الشام.

بيد أنّ الأوّل من نيسان 2024، حمل جديداً إلى عناصر المواجهة بين إسرائيل وإيران تمثّل في اغتيال الجنرال محمد رضا زاهدي، قائد فيلق القدس في سوريا ولبنان، عبر ضربة جوّية دقيقة استهدفت مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق. كسر هذا الاغتيال قاعدة الاشتباك التاريخية بين الطرفين، إذ طالت الضربة أحد أبرز رموز النفوذ الإقليمي الإيراني في وضح النهار، وفي موقع يُفترض أنّه يتمتّع بحصانة دبلوماسية.

بعدها بأيّام، وفي 13 نيسان، ردّت إيران عبر عمليّة “الوعد الصادق واحد”، مطلقةً أكثر من 300 صاروخ ومسيّرة باتّجاه أهداف عسكرية في إسرائيل، في أوّل اعتراف بهجوم صريح من طهران على إسرائيل من دون وسطاء أو وكلاء.

دولة بحجم إيران، بثقلها السكّاني والجغرافي والطائفي، ستتحوّل معملاً للفوضى إذا انهارت فجأة، ومن دون ترتيبات ملء الفراغ

الردّ الإسرائيليّ على الردّ الإيراني لم يتأخّر. ففي 19 نيسان استهدفت إسرائيل عبر هجوم جوّي منظومات الدفاع الجوّي الإيراني، وتحديداً بطّاريّات S‑300 ورادارات حماية المنشآت النووية قرب أصفهان. بدا واضحاً أنّ ثمّة ملمحاً استراتيجيّاً في العمل العسكري الإسرائيلي وأنّ أهدافه تتجاوز ترميم الردع. هيّأت تل أبيب بالانتقال من معادلة حرب الظلّ إلى الاشتباك المباشر، المجال الجوّي لضربات مستقبلية أعمق في إيران، كما هو حاصل اليوم، وأعلنت أنّ ساحة المعركة لم تعُد تقتصر على سوريا أو الوكلاء، بل باتت تشمل قلب إيران نفسه.

لم تكد أصداء التصعيد تنحسر، حتّى عادت إسرائيل لتوسّع رقعة المواجهة أكثر، عبر ضربة وُصفت بأنّها غير مسبوقة سياسيّاً ومعنويّاً: اغتيل إسماعيل هنيّة، رئيس المكتب السياسي لـ”حماس”، داخل العاصمة الإيرانية طهران، في 31 تمّوز 2024، في قلب مربّع أمنيّ يُفترض أنّه محصّن، وهو في ضيافة المرشد للمشاركة في مراسم تنصيب الرئيس الجديد مسعود بزشكيان.

إيران

تحدٍّ لإيران

مثل هذا الاغتيال تحدٍّ مباشر لمكانة إيران الحامية للمقاومة، وضربة موجعة لهيبتها وسيادتها ومؤسّساتها، لكنّ إيران اختارت التمهّل في الردّ، ولم تضطرّ إلى مهاجمة إسرائيل إلّا بعد اغتيال حسن نصرالله. أمّا السبب فهو أنّ نصائح خليجية كانت وصلت إلى طهران في أعقاب مواجهة نيسان أوضحت لإيران أنّ ردّها المحتمل على قصف دفاعات أصفهان سيقود إلى حرب معدّة سلفاً ومأخوذ القرار بشأنها.

في الأوّل من تشرين الأوّل 2024، أطلقت طهران للمرّة الثانية خلال ستّة أشهر صواريخ بالستية ومجنّحة باتّجاه إسرائيل بعد إخطار الأميركيين، ضمن عمليّة “الوعد الصادق ٢”، ردّاً على مقتل هنيّة ونصرالله بشكل خاصّ.

حوّلت “أيّام التوبة” الهجوم الإيراني إلى نقطة ضعف إضافية، وجرّدت طهران من قدرة ادّعاء امتلاك المبادرة والردع

إسرائيل، التي كانت قد فتحت الأجواء سابقاً بقصف الدفاعات الجوّية قرب أصفهان، لم تكتفِ بالتصدّي للهجوم الإيراني، الأكبر في تاريخ العلاقة بين البلدين، بل وسّعت دائرة الردّ في 26 تشرين الأوّل، عبر عمليّة “أيّام التوبة”، وهي أكبر ضربة جوّية ضدّ إيران منذ بدء الصراع، استهدفت خلالها أكثر من 20 موقعاً عسكريّاً وبنية تحتية حسّاسة في العمق الإيراني، شملت منشآت لتجميع الطائرات المسيّرة، مصانع صواريخ بالستية، ورادارات دفاع جوّي من طراز S-300 قرب أصفهان وطهران، إلى جانب مواقع دعم لوجستي تابعة للحرس الثوري في سوريا والعراق.

لم تردّ إسرائيل على الصواريخ وحسب، بل عاقبت المنظومة التي تنتجها وتحميها، وغرف التحكّم، ومنصّات التكنولوجيا الداعمة لها، وقادة مشاريع تطوير. لم يكن الردّ على الردّ هذه ضربة انتقامية وحسب، بل هندسة عقاب استراتيجي تهدف إلى إعادة تعريف الخطّ الأحمر، ووضع إيران برمّتها في دائرة الاستهداف. وقد تزامنت الضربات مع تسريبات استخبارية عن اغتيالات دقيقة لضبّاط ومهندسين إيرانيين في سوريا، وهو ما أعطى العمليّة بُعداً مركّباً: ضربة من الجوّ، توازيها حرب ظلّ على الأرض.

حوّلت “أيّام التوبة” الهجوم الإيراني إلى نقطة ضعف إضافية، وجرّدت طهران من قدرة ادّعاء امتلاك المبادرة والردع.

بين اغتيال زاهدي واغتيال هنيّة، ثمّ الردّين الإيرانيَّين وما تبعهما من ضربات إسرائيلية، دخل الطرفان في مواجهة مباشرة كانت تمهّد لمشهد الحرب الدائرة الآن بين تل أبيب وطهران، والتي تبدو الحلقة الأخيرة في مسلسل تفكيك محور الممانعة.

كسر الأوهام

الحاصل منذ 13 حزيران ليس عمليّة عسكريّة وحسب، بل لحظة كسر قاسية لجملة من الأوهام التي حكمت تفكير المنطقة لعقود، وستترتّب عليها نتائج تأسيسية لشرق أوسط جديد:

ما نعاينه اليوم هو انتهاء دور سوريا “المنطقة العازلة” بين إسرائيل وإيران، وتحوُّلها من مساحة وسيطة إلى ميدان عبور للهجوم على نظام طهران

1- وهم الردع الإيراني. فالنظام الذي بنى سمعته على قدرته على “الردّ الساحق”، بدا عاجزاً عن منع استهداف عمقه النووي، وعاجزاً أكثر عن فرض كلفة استراتيجية على من هاجمه.

2- وهم القيادة. إذ ظهرت طهران بلا صوت، بلا شخصيّة قادرة على احتواء الصدمة أو تحويلها إلى لحظة توحيد داخلي. خامنئي شبه غائب، والحرس الثوري مربك، والرأي العامّ بلا بوصلة، والثورة عجوز تكابر.

3- الانهيار الكامل لفكرة أنّ إسرائيل أسيرة الضوء الأخضر الأميركي. تحرّك نتنياهو وحده، وفرض واقعاً جديداً، أربك حتّى حليفه الأميركي، الذي انقلب من التحذير من الحرب إلى تبنّيها في فترة 24 ساعة.

ما بدأ ردّاً على السابع من أكتوبر، تحوّل لاحقاً إلى حملة استراتيجية بعيدة المدى، اتّسمت بعبقريّة في التوقيت والتسلسل: تحييد “حماس” لتخفيف الضغط الجنوبي، تفكيك “الحزب” بعمليّات مركّبة، إسقاط الجسر السوريّ، ثمّ توجيه الضربة إلى القلب الإيراني.
فهل هي آخر الحروب فعلاً؟

صحيح أنّ إسرائيل باتت صاحبة المبادرة، وأنّ محور المقاومة تفتّت، وأنّ طهران لم تعد “بعيدة وآمنة”.
لكنّ الصحيح أيضاً أنّ إيران لم تُهزم بعد. ما زالت تملك أدوات، وما زال لديها وقت وتاريخ طويل في الانتظار والتكيّف، ما لم تلجأ إسرائيل إلى إلحاق خامنئي بمن سبقه، وهذا أمر لم يعد خارج الحسابات.

في المقلب الآخر، إنّ سقوط النظام الإيراني، وإن بدا هدفاً جذّاباً لإسرائيل وخصوم طهران، لكنّه يحمل في طيّاته احتمال الفوضى الشاملة. دولة بحجم إيران، بثقلها السكّاني والجغرافي والطائفي، ستتحوّل معملاً للفوضى إذا انهارت فجأة، ومن دون ترتيبات ملء الفراغ.