كيف صمد الحوثيون في وجه أميركا؟

  • شارك هذا الخبر
Friday, May 16, 2025

بعد سبعة أسابيع ونصف من الغارات الجوية المكثفة على أكثر من 1000 هدف منفصل، انتهت حملة القصف التي شنتها إدارة ترمب ضد الحوثيين في اليمن بالطريقة المفاجئة نفسها التي بدأت بها، ففي السادس من (مايو) أيار الجاري وخلال اجتماع في المكتب البيضاوي مع رئيس الوزراء الكندي مارك كارني، أعلن الرئيس دونالد ترمب ببساطة أن الحوثيين المدعومين من إيران "لا يريدون القتال بعد الآن"، وأن الولايات المتحدة "ستثق بكلامهم وستوقف القصف".

وأكد وزير الخارجية العُماني بدر بن حمد البوسعيدي عبر منصة "إكس" أن بلاده توسطت في اتفاق وقف إطلاق النار بين واشنطن والحوثيين، تعهد فيه الطرفان بعدم استهداف بعضهما بعضاً، وعلى رغم الهجمات الفعالة التي ينفذها الحوثيون على الملاحة الدولية في البحر الأحمر واستمرارهم في مهاجمة إسرائيل، فإن الاتفاق لا يفرض أي قيود صريحة على تحركاتهم ضد أي بلد آخر غير الولايات المتحدة، ويُلاحظ بصورة لافتة غياب إسرائيل والسفن "المرتبطة بإسرائيل" من نص الاتفاق، وهو تعبير فسره الحوثيون بصورة فضفاضة في الماضي [تعبير سبق أن فسره الحوثيون تفسيراً موسعاً يخدم مصالحهم].

وما يثير الحيرة في إعلان البيت الأبيض هو أن موقف الحوثيين لم يتغير فعلياً منذ أن بدأت إدارة ترمب حملتها الجوية المتصاعدة في الـ 15 من مارس (آذار) الماضي، فمن الناحية الظاهرية أُطلقت عملية "راف رايدر" (Operation Rough Rider)، وهي التسمية التي أعطيت للحملة الأميركية، بهدف استعادة حرية الملاحة في البحر الأحمر وإعادة فرض الردع ضد إيران ووكلائها، وعندما بدأت العملية كان الحوثيون يستهدفون إسرائيل وكذلك السفن المرتبطة بها بصورة صريحة، على رغم أنهم لم يستهدفوا السفن الأميركية، وقالوا إنهم سيواصلون القيام بذلك حتى تنهي إسرائيل حربها في غزة.

ومنذ بداية الحملة الأميركية أوضح قادة الحوثيين أنهم سيتوقفون عن مهاجمة السفن الأميركية إذا توقفت واشنطن عن القصف، لكن هجماتهم على إسرائيل ستستمر، وبعد إعلان ترمب عن اتفاق السادس من مايو الجاري، أعاد المتحدث باسم الحوثيين محمد عبدالسلام تأكيد هذا الموقف، وبعبارة أخرى فبعد عملية عسكرية أميركية كلفت أكثر من ملياري دولار، وكان من المفترض أن يكون لها تأثير كبير في القدرات العسكرية للحوثيين، أسفر وقف إطلاق النار بين الولايات المتحدة والحوثيين عن تثبيت موقف الجماعة الأساس من دون أن يحقق تغييرات جوهرية في سلوكها أو إستراتيجيتها، وعلى رغم ادعاء ترمب بأن الحوثيين قد استسلموا لكن الجماعة لا تزال تحتفظ بسلطتها وقد وصفت الاتفاق بأنه "انتصار لليمن".

وبالنسبة إلى إدارة ترمب فقد وفر وقف إطلاق النار نهاية سريعة لحملة أصبحت شيئاً فشيئاً عبئاً لا يمكن تحمله، فالقصف لم يكن مكلفاً للغاية وحسب، بل كان يثير أيضاً مخاوف بين صانعي السياسة في واشنطن من أن الولايات المتحدة قد تنجر إلى حرب أخرى لا نهاية لها في الشرق الأوسط، ولا شك في أن هذا السيناريو قد دفع به نائب الرئيس جي دي فانس وأعضاء الإدارة الأكثر ميلاً إلى الانعزالية الجديدة، والذين كانوا متشككين في المغامرات العسكرية الأميركية منذ البداية.

ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت هذه الخاتمة ستوافر فترة توقف كافية تسمح لإدارة ترمب بالتنصل من مشكلة الحوثيين، لكن إذا تجاهل ترمب هجمات الحوثيين المستمرة على إسرائيل فثمة أسباب تدعو إلى الاعتقاد بأن الحوثيين سيتجنبون مهاجمة الأصول الأميركية في الوقت الراهن، وعلى الأرجح كان الحوثيون سيصمدون حتى لو استمرت حملة القصف الأميركية، لكن توقفها له إيجابيات عدة بالنسبة إليهم، إذ يمكن لقادة الجماعة الآن الادعاء بأنهم خاضوا مواجهة مباشرة مع قوة عظمى وانتصروا، وأنهم قد تخلصوا من الضغط الذي كان يتسبب به القصف الأميركي، ويمكنهم أيضاً التركيز على إسرائيل الآن التي تشن بدورها حملة جوية عقابية رداً على الهجمات الحوثية، بما في ذلك هجوم صاروخي باليستي قرب مطار بن غوريون في تل أبيب أوائل مايو الجاري، والأهم من ذلك أن الاتفاق مع الولايات المتحدة يجعل من غير المرجح أن تدعم واشنطن هجوماً برياً ضد الحوثيين تشنه الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، وهي ائتلاف منقسم داخلياً من الفصائل المناهضة للحوثيين التي تسيطر على الأجزاء الجنوبية والشرقية من البلاد، وقد يكون هذا الهجوم البري، بالتزامن مع القوة الجوية، الطريقة الأكثر فاعلية للضغط على الحوثيين حقاً وإضعاف قبضتهم على السلطة، على رغم ما ينطوي عليه من أخطار كبيرة.

واقع الأمر أن إدارة ترمب كانت محقة في محاولتها إيجاد مخرج من حملة جوية متزايدة الكلفة ومفتوحة الأجل، لكن الخيار الذي تبتنه قد يضر أكثر مما ينفع، فما لم تسارع واشنطن إلى تنسيق الجهود مع حلفائها في المنطقة، وخصوصاً السعودية، في إطار جهد أوسع للحفاظ على الضغط العسكري والاقتصادي والسياسي على الحوثيين، فستستمر الجماعة في إثارة الفوضى في اليمن وعبر المنطقة، وهناك بديل أفضل، فمن خلال دعم الأمم المتحدة ووسطاء آخرين مثل سلطنة عُمان، يمكن للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة وخارجها الدفع نحو تسوية سياسية أوسع في اليمن من شأنها تقييد قدرات الحوثيين العسكرية وطموحاتهم، وقد يبدو هذا أمراً صعباً لكنه من حيث الكلفة سيكون أكثر فعالية من البدائل الأخرى المتوافرة، وفي غياب مثل هذه الجهود سيستعيد الحوثيون قوتهم ويعيدون تنظيم صفوفهم، وقد يعاودون قريباً تشكيل التهديد الأمني نفسه الذي دفع إدارة ترمب إلى إطلاق حملتها في المقام الأول.

رحلة وعرة

بدأت الولايات المتحدة ضرباتها ضد الحوثيين للمرة الأولى في عهد الرئيس جو بايدن الذي شن حملة محدودة من الغارات الجوية في يناير (كانون الثاني) 2024 رداً على هجمات الجماعة على الشحن والملاحة في البحر الأحمر، وبخاصة هجومها على سفينة حربية أميركية، وسعت إدارة بايدن إلى اتباع إستراتيجية محسوبة، إذ كان الهدف هو الرد على هجمات الحوثيين من دون تصعيد النزاع أو التسبب في سقوط ضحايا مدنيين أو إثارة تصعيد إقليمي أكبر مع إيران، وعلى النقيض من ذلك كان ترمب أكثر عدوانية بكثير، إذ انتقد بايدن بشدة بسبب ما وصفه بالرد "الضعيف بصورة مثيرة للشفقة" على تهديد الحوثيين، ويبدو أن إدارته استمدت جرأة إضافية من ضعف إيران الكبير بعد أن تضررت القوى الموالية لها في غزة ولبنان وسوريا بصورة كبيرة خلال العام الماضي، نتيجة حرب إسرائيل ضد "حماس" و"حزب الله"، وسقوط نظام الأسد.

ومع ذلك فقد كان حجم الحملة غير متوقع، وفي الواقع تُعد عملية "راف رايدر" أكبر تدخل عسكري لإدارة ترمب وأكثرها كلفة حتى الآن، ولقد شملت العملية أكثر من 1000 ضربة جوية استهدفت مجموعة واسعة من أهداف الحوثيين، بما في ذلك مستودعات الأسلحة ومراكز القيادة والسيطرة وأنظمة الدفاع الجوي والبنية التحتية الحيوية وقادة الحوثيين، ولتنفيذ هذه العملية الطموحة نشرت الإدارة مجموعتي حاملات طائرات هجومية وطائرات مسيرة من طراز "أم.كيو-9 ريبر" MQ-9 Reaper، وقاذفات شبح من طراز "بي-2"، إضافة إلى منظومات الدفاع الجوي "باتريوت" و"ثاد".

وإضافة إلى التصعيد الكبير في الغارات الجوية، كثفت الإدارة الأميركية أيضاً الضغط الاقتصادي والسياسي، ففي مارس الماضي أعادت تصنيف الحوثيين كـ "منظمة إرهابية أجنبية" (FTO)، وهو تصنيف يفرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية شديدة، وقد أدى هذا التصنيف إلى شل النظام المصرفي في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين وحد من قدرتها على استيراد الوقود، كما جعل بعض العناصر في اتفاق مقترح ترعاه الأمم المتحدة لإنهاء الحرب، وكان قيد التفاوض قبل بدء هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، غير قابل للتطبيق، وكان من المتوقع أن يؤدي تنفيذ الاتفاق الذي يحظى بدعم حلفاء واشنطن في الخليج إلى وقف شامل لإطلاق النار يمهد لانطلاق عملية سياسية تهدف إلى تحديد آليات تقاسم السلطة في اليمن، وعلاوة على ذلك وعد الاتفاق بفوائد اقتصادية كبيرة، بما في ذلك صيغة لدفع رواتب جميع الموظفين الحكوميين في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين.

ونظراً إلى موارد اليمن المحدودة فقد كان ذلك سيتطلب دعماً مالياً خارجياً كبيراً، لكن تصنيف واشنطن الحوثيين كمنظمة إرهابية أجنبية جرّم التحويلات المالية إليهم، مما جعل هذا الجانب من الاتفاق غير قابل للتنفيذ.

وفرضت إجراءات واشنطن ضغطاً حقيقياً على الحوثيين، فخلال الحملة، وفقاً للـ "بنتاغون"، انخفض إطلاق الحوثيين للصواريخ الباليستية ضد أهداف إسرائيلية وأميركية بنسبة 87 في المئة، وانخفضت هجمات الطائرات المسيرة بنسبة 65 في المئة، وإضافة إلى ذلك أجبرت الضربات الأميركية معظم قادة الجماعة على الاختباء وأبطأت وتيرة التواصل الداخلي بينهم، وكذلك عملت الأجهزة الأمنية الداخلية التابعة للحوثيين على تكثيف الاعتقالات بحق اليمنيين الذين يشتبه في كشفهم عن معلومات استهداف لأطراف قد تسربها إلى الولايات المتحدة أو حلفائها.

وإضافة إلى ذلك غيرت الضربات الأميركية الحسابات العسكرية للجماعة بصورة موقتة، فبعد تصنيفها كمنظمة إرهابية أجنبية، سعت الجماعة في البداية إلى السيطرة على حقول النفط والغاز في محافظة مأرب شرق العاصمة صنعاء، وهي مورد إستراتيجي كان من شأنه التخفيف من أثر التصنيف، لكن الحملة الجوية الأميركية أخرت موقتاً هذا الطموح، والذي لو تحقق كان ليعزز موارد الحوثيين ويمهد الطريق لهجمات لاحقة على محافظات أخرى منتجة للنفط في الجنوب والشرق، تخضع حالياً لسيطرة الحكومة اليمنية.

وقبل إعلان وقف إطلاق النار في السادس من مايو الجاري رفعت الضربات سقف التوقعات لدى الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً بأنها قد تتمكن من الحصول على دعم أميركي وإقليمي لشن هجوم بري جديد لاستعادة الأراضي الخاضعة لسيطرة الحوثيين، وقد ضغط مسؤولو الحكومة اليمنية بشدة على واشنطن للحصول على هذا الدعم، مدركين أن الفرصة التي أمامهم عابرة وقد لا تدوم طويلاً، وأنهم إن لم يستغلوها فسيكون الحوثيون قادرين على استخدام انتصارهم المتمثل في الصمود أمام الحملة العسكرية الأميركية لتعزيز موقفهم أكثر، وشكل التهديد بإمكان شن عملية برية مصدر قلق بالغ لقادة الحوثيين الذين يصفون أي معارض داخلي لهم بأنه عميل للعدوان الأميركي - الإسرائيلي.

اختبار الصمود

كان لحملة الضغط التي شنها ترمب حدود بدأت تتضح خلال بضعة أسابيع، فقد واصلت القوات الأميركية ضرب أهداف حوثية بصورة شبه يومية مستخدمة كميات هائلة من الذخائر، وادعت الـ "بنتاغون" أنها قتلت قادة مهمين في الجماعة، ومع ذلك لا يوجد دليل يذكر على تصفية أفراد من الهيكل القيادي للجماعة، فالدوائر الداخلية للقيادة لا تزال سليمة إلى حد كبير، والأهم من ذلك أن قدرة الجماعة على استهداف الأهداف الأميركية والإسرائيلية لم تتضرر بصورة كبيرة.

ومن جانبهم يدّعي الحوثيون أنهم أسقطوا ما لا يقل عن سبع طائرات أميركية مسيرة من طراز "ريبر" منذ مارس الماضي تبلغ كلفة الواحدة منها 30 مليون دولار، وفي الـ 28 من أبريل (نيسان) الماضي سقطت طائرة مقاتلة أميركية بقيمة 60 مليون دولار في البحر عندما اضطرت حاملة الطائرات التي تقلها إلى القيام بانعطاف حاد لتجنب نيران الحوثيين، وفي أوائل مايو الجاري تمكن صاروخ أطلقه الحوثيون من اختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية وسقط قرب مطار تل أبيب، مما دفع إسرائيل إلى رد عنيف.

وباختصار فإن المكاسب التكتيكية التي حققتها الولايات المتحدة كانت تأتي بكلفة متزايدة وأخطار جسيمة، فاستمرار العمليات كان سيزيد من احتمال مقتل أفراد من القوات الأميركية، وهو سيناريو كان من شأنه أن يدفع واشنطن حتماً إلى التورط بصورة أكبر في الصراع، وعلاوة على ذلك كانت الولايات المتحدة تستنفد الذخائر بمعدل مقلق، وكانت وزارة الدفاع الأميركية تعاني بالفعل ضغوطاً في تلبية الطلب المتزايد على الأسلحة، بسبب التزامات أميركية سابقة تجاه إسرائيل وأوكرانيا، إضافة إلى ضربات إدارة بايدن ضد الحوثيين والجهود الأميركية الرامية إلى الدفاع عن إسرائيل من الهجمات الإيرانية المباشرة، وأبدى بعض المسؤولين الأميركيين قلقهم من أن الكمّ الكبير من الأسلحة البعيدة المدى المستخدمة ضد الحوثيين، إضافة إلى نقل كتيبة دفاع جوي تستخدم صواريخ من طراز "باتريوت" من القيادة الأميركية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ إلى منطقة الشرق الأوسط، قد يُضعف استعداد الولايات المتحدة لمواجهة التهديدات الصينية.

وعلاوة على ذلك فقد كانت الغارات الجوية الأميركية تلحق أضراراً متزايدة بالمدنيين والبنية التحتية المدنية في اليمن، وهي حقيقة سارعت وسائل إعلام الحوثيين إلى استغلالها لمصلحة الجماعة، فمثلاً أسفرت ضربة أميركية في منتصف أبريل الماضي استهدفت ميناء رأس عيسى النفطي في محافظة الحديدة عن مقتل أكثر من 70 يمنياً، كما أسفرت غارة في أوائل مايو الجاري على مركز احتجازٍ يديره الحوثيون ويضم مهاجرين أفارقة، عن مقتل العشرات، بمن فيهم مدنيون. يُظهر مسار الحرب الأهلية السابقة أن مثل هذه الحوادث لا تُضعف الدعم المحلي للحوثيين، بل على العكس تصب في مصلحتهم، وهو ما سمح لهم بدرء الانتقادات وحشد الدعم ضد عدو خارجي.

ومنذ بداية حملة ترمب أعلن الحوثيون أنهم قادرون على الصمود في وجه الضغوط والخروج منها أقوى، فالقوة الأساس لحركة الحوثيين كانت في النضال المسلح، فبصفتها فرعاً راديكالياً من المذهب الزيدي في الإسلام، المناهض بشدة لإسرائيل والغرب، تشكلت الجماعة في خضم الحرب ضد الحكومة اليمنية منذ العقد الأول من هذا القرن، وبفضل تمركزهم في المرتفعات الجبلية الوعرة في اليمن، فقد اكتسب الحوثيون أعواماً من الخبرة في إخفاء قياداتهم وأسلحتهم، كما أن لديهم قدرة هائلة على تحمل الهجمات وفقدان المقاتلين والأسلحة، وعلاوة على ذلك، وعلى رغم أن إيران، الداعم الرئيس للجماعة، أصبحت أضعف بكثير، فقد تمكن الحوثيون من تنويع خطوط إمدادهم، فمن خلال تطوير شبكات جديدة لتهريب الأسلحة تمتد الآن إلى ما بعد إيران وصولاً إلى القرن الأفريقي، وبناء علاقات انتهازية مع الصين وروسيا، أصبحت الجماعة أكثر قدرة على الصمود.

باختصار، وعلى رغم أن الحملة الأميركية وضعت الحوثيين تحت ضغط شديد لكنها لم تفلح في ردعهم على الإطلاق، وكانوا بعيدين كل البعد من الهزيمة عند دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، وبحلول أوائل مايو الجاري كانت الولايات المتحدة تحقق مكاسب تكتيكية من خلال تدمير الأسلحة والقدرات الحوثية، وإجبار القيادات على الاختباء، وإثارة مخاوف الحوثيين من احتمال شن هجوم بري جديد ضدهم قريباً، لكن الولايات المتحدة لم تتمكن من تحويل نقاط الضغط هذه إلى مكاسب إستراتيجية.

الإستراتيجية المفقودة

من الممكن للولايات المتحدة أن تحد من تدخلها العسكري وتدعم في الوقت ذاته مساراً نحو التسوية، أو في الأقل نحو احتواء التهديد الحوثي من خلال العمل مع حلفائها لممارسة ضغوط عسكرية واقتصادية وسياسية على الجماعة، ولتحقيق ذلك يجب على صانعي السياسات الأميركيين أن يتخلصوا أولاً من وهم إمكان الفصل الواضح بين ما يحدث داخل اليمن وما يحدث في البحر الأحمر أو المنطقة الأوسع، وبخاصة في الخليج، وقد أبدى كل من فانس ووزير الدفاع بيت هيغسيث عدم اهتمامهما بما يحدث داخل اليمن، وعلى حد تعبير فانس فإذا توقف الحوثيون عن شن هجمات في البحر الأحمر فيمكنهم "العودة لما كانوا يفعلونه قبل مهاجمة السفن المدنية"، ومع ذلك فإن المشكلات التي تواجهها واشنطن وحلفاؤها في البحر الأحمر نابعة بالتحديد من الصراع الداخلي على السلطة في اليمن، فبصفتهم قوة مسلحة بصورة متزايدة وغير خاضعة للرقابة، يتمتع الحوثيون بالقدرة على إبراز قوتهم وتهديداتهم خارج حدود اليمن، وسيواصلون القيام بذلك إلى أن يواجهوا قيوداً داخلية حقيقية، إذ لا تستطيع الولايات المتحدة أن تتدخل في كل تفاصيل السياسات المعقدة في اليمن، ولا تحتاج إلى تكون الطرف القائد في توجيه الإستراتيجية السياسية المتعلقة باليمن، ولكن في أقل تقدير يجب أن تمتلك سياسة واضحة تجاهه.

ولضمان حفاظ اليمن على بعض التوازن في الداخل، ينبغي على الولايات المتحدة منح داعمي الحكومة اليمنية الخليجيين، بما في ذلك السعودية والإمارات العربية المتحدة، الضمانات الأمنية اللازمة لمواصلة دعم الحكومة سياسياً وعسكرياً، فهذان البلدان هما الموردان الرئيسان للأسلحة والمال لقوات الحكومة اليمنية، لكنهما صرّحا علناً بعدم رغبتهما في إشعال الحرب من جديد، كما أنهما يدركان أنه إذا تقدمت القوات اليمنية ضد الحوثيين ميدانياً، فمن المرجح أن تستهدفهما الجماعة أيضاً، حتى ولو اقتصر دورهما على دعم حلفائهما اليمنيين في الدفاع عن خطوط المواجهة الحالية، وعلى رغم قلق الرياض وأبوظبي في شأن التهديدات الأمنية الطويلة المدى التي يشكلها الحوثيون، لكنهما حريصتان على تحويل تركيزهما إلى الأولويات الاقتصادية المحلية.

ومن خلال تقديم ضمانات أمنية للرياض وأبوظبي تكون واشنطن في الواقع قد تعهدت بحماية حليفتيها، مما يسمح لهما بتعزيز القوات المعارضة للحوثيين في الداخل اليمني، وبالتالي يزيد من فرص التوصل إلى اتفاق متوازن لتقاسم السلطة، وإضافة إلى ذلك يمكن للولايات المتحدة تشجيع السعودية والإمارات العربية المتحدة على تحسين تنسيق دعمهما العسكري والسياسي لقوات الحكومة اليمنية، إذ غالباً ما تتفاقم الانقسامات داخل هذه القوات بسبب التباين بين داعميها، فمثلاً رفضت أبوظبي منذ زمن العمل مع المقاتلين المرتبطين بـ "جماعة الإخوان المسلمين"، وهذا التنسيق أكثر أهمية من أي وقت مضى، إذ إن خيبة الأمل في صفوف قوات الحكومة اليمنية من الانسحاب الأميركي، إضافة إلى الضائقة الاقتصادية المتزايدة والصراع السياسي الداخلي، يهددان بانهيار الحكومة مما يفتح المجال فعلياً أمام توسع الحوثيين أو عودة ظهور تنظيم "القاعدة" في المناطق الخاضعة للحكومة.

ويجب أن يكون للضغط على الحوثيين هدف واقعي، فالحملة الجوية العسكرية وحدها لم تكن يوماً خياراً عملياً، ومع وقف إطلاق النار بين الولايات المتحدة والحوثيين، يبدو الرد العسكري البري مستبعداً بصورة متزايدة، وقد يكون التوصل إلى اتفاق مع إيران يشمل تعهد طهران بوقف تزويد الحوثيين بأسلحة متقدمة مفيداً، لكنه لن يكون الحل الأمثل لكبح طموحاتهم، كما أن وقف إطلاق النار في غزة قد يوافر فرصة لاختبار مدى التزام الحوثيين بوقف هجماتهم في البحر الأحمر والضغط عليهم من خلال دبلوماسية متعددة الأطراف ومنسقة، لكن لا يوجد حل سهل لليمن، ولا بديل عن نهج إقليمي أكثر شمولاً وتنسيقاً، ولذا ينبغي على الولايات المتحدة وشركائها التركيز على هدف قابل للتحقيق، وإن كان صعباً، وهو الدفع باتجاه اتفاق تدعمه الأمم المتحدة ويقدم ضمانات أقوى لأمن البحر الأحمر وقيوداً على تسليح الحوثيين، وضمانات لتقاسم السلطة داخلياً، ويمكن أن يبدأ ذلك بإعادة تقييم الأطراف لاتفاق الأمم المتحدة المقترح الذي كان قيد التفاوض سابقاً، بما في ذلك تعزيز أحكام وقف إطلاق النار وتعديل نظام توزيع الموارد المالية بما يتماشى مع تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية أجنبية، ووضع ضمانات أقوى لدعم اتفاق لتقاسم السلطة بين الحوثيين وقوات الحكومة، لكن تحقيق أي من هذا يتوقف بصورة كاملة على تعاون إدارة ترمب مع حلفائها الخليجيين واليمنيين لتثبيت خطوط المواجهة في اليمن، ومواصلة ممارسة الضغط الاقتصادي والسياسي والعسكري على الحوثيين، وإذا فشلت إدارة ترمب في دعم تطوير صيغة متوازنة لتقاسم السلطة في الداخل فلن تبقى المشكلات محصورة داخل حدود اليمن.


اندبندنت عربية