رفع العقوبات عن سوريا: لبنان قادر على الاستفادة ولكن...

  • شارك هذا الخبر
Wednesday, May 14, 2025

لم تكن صدفة أن يُفرد الرئيس الأميركي دونالد ترامب مساحة واسعة من خطابه يوم أمس للحديث عن الشأن السياسي اللبناني، بموازاة إعلانه عن رفع العقوبات المفروضة على سوريا. ذلك أنّه في تصوّرات المجتمع الدولي، تمامًا كما هو في واقع الحال على الأرض، لا يمكن الفصل بين ما يجري في دمشق وبيروت. وإذا كان اللبنانيون قد خبروا معنى التأثير السوري في السياسة المحليّة اللبنانيّة، فإنّ ترابط الاقتصادين وشؤونهما النقديّة والماليّة كان واضحًا منذ نشوء الدولتين. ولعلّ أبرز دلالة على ذلك كان التأثير المتبادل لأزمات الدولتين النقديّة والماليّة منذ العام 2011، إلى الحد الذي كشف وجود شبكات كاملة من أسواق النقد "المشتركة" بين لبنان وسوريا.

لن يكون لبنان بعيداً عن تدعيات رفع العقوبات عن سوريا، وخصوصًا من النواحي الإيجابيّة: فتح الأسواق الماليّة بين الدولتين، وفتح السوق المصرفيّة السوريّة بشكلٍ أوسع أمام المصارف اللبنانيّة، وتأثير تدفّق العملة الصعبة إلى دمشق، فضلًا عن فرص عمل الشركات اللبنانيّة في الداخل السوري، وعودة جزء من النازحين السوريين الموجودين في لبنان إذا تسارعت عجلة النمو في سوريا. كما ثمّة من يراهن على مساهمة العملاء السوريين في إنعاش النظام المصرفي اللبناني لاحقًا، إذا دخلت خطط الانتظام المالي حيّز التنفيذ... أمّا التأثيرات السلبيّة المحتملة، فتبقى محدودة مقارنة بالتداعيات الإيجابيّة، وخصوصًا إذا واكبت الدولة اللبنانيّة المستجدات بخطط مدروسة للاستفادة من علاقة اقتصاديّة تكامليّة بين البلدين.

ولكن، لن يكون من السهل أو البديهي قطف ثمار هذه اللحظة. إذ أن مواكبة كل هذه الفرص ستحتاج إلى مقوّمات، وأهمها المضي بمسار التعافي المالي في لبنان. فمن دون هذا المسار، سيصعب على لبنان الاستفادة من الفرص الماليّة والنقديّة التي سيفرضها فتح السوق السوري بهذا الشكل.



فرص القطاع المالي

يعود دخول المصارف اللبنانيّة إلى السوق السوريّة للعام 2004، حيث تزايدت الرساميل اللبنانيّة التي تم توظيفها في القطاع المصرفي السوري، إلى حد سيطرة المصرفيين اللبنانيين على نصف المصارف الخاصّة التي كانت تعمل في سوريا، والتي بلغ عددها 14 مصرفًا لاحقًا. وبطبيعة الحال، استفادت المصارف اللبنانيّة منذ ذلك الوقت من مجموعة من الميزات التنافسيّة، التي لم تتمتّع بها المصارف الأجنبيّة المنافسة، ومنها قرب المسافة الجغرافيّة بين البلدين، وتشابه اللهجات والثقافات الذي يسمح بنقل جزء من الخبرات المصرفيّة اللبنانيّة للعمل مباشرة في الفروع السوريّة. وكذلك سمعة المصارف اللبنانيّة قبل الأزمة الأخيرة، إذ عُرف هذا القطاع في لبنان كملجأ للرساميل السوريّة منذ دخول دمشق مرحلة التأميمات في خمسينات القرن الماضي.

بعد فرض العقوبات على سوريا، عملت المصارف اللبنانيّة على بعض الإجراءات الشكليّة والمحاسبيّة، مثل فصل ميزانياتها في لبنان عن فروعها السوريّة، وفصل أنظمتها الماليّة والإداريّة الداخليّة بشكلٍ أوضح. أمّا الحديث عن خروج بعض المصارف اللبنانيّة من السوق السوريّة، فظلّ مقرونًا بكلام عن أنّ هذه الإجراء كان صوريًا، بهدف تفادي مخاطر السمعة الناشئة عن وجود هذه المصارف في بلد معرّض للعقوبات الأميركيّة والأوروبيّة. وحتّى اليوم، ما زالت المصارف اللبنانيّة تمتلك أصولًا في سوريا بقيمة مليار دولار أميركي.

بمجرّد رفع العقوبات الأميركيّة عن سوريا، ستكون المصارف اللبنانيّة على موعد مع العودة إلى مرحلة ما قبل الـ 2011، لتعاود الربط الطبيعي والتقليدي بين السوقين من دون أي قيود. وفي الواقع، ستمتلك المصارف اللبنانيّة هنا ميزة تنافسيّة وتفاضليّة، في إطار أي سباق محتمل مع مصارف أجنبيّة أخرى، بالنظر إلى امتلاكها الرخص والفروع والرأسمال البشري داخل السوق السوري، بل وامتلاكها أيضاً العلاقات والزبائن والسمعة. وإذا كان القطاع في لبنان قد حجّم قوّته العاملة بعد حصول الانهيار، فهو سيكون قادرًا على نقل جزء من هذه القوّة العاملة إلى سوريا، تمامًا كما كان يفعل في الماضي قبل اندلاع الحرب السوريّة.

لكنّ تمكّن المصارف اللبنانيّة من العودة للعمل والتوسّع في السوق السوريّة، سيحتاج إلى بعض الشروط، وأهمها استعادة الثقة بإسمها وكياناتها الأم، وهذا ما يعني تلقائيًا إنجاز عمليّة إعادة هيكلتها، وتخلّصها من كتلة الخسائر المتراكمة في ميزانيّاتها في لبنان. مع الإشارة إلى أنّ حالة التأزّم المصرفي القائمة في لبنان لن تنعكس بشكلٍ مباشر على وضعيّة فروع المصارف اللبنانيّة في سوريا، وخصوصًا بعد فصل ميزانيّات هذه الكيانات عن ميزانيّات المصارف الأم في لبنان. إلا أنّ المشكلة تبقى مربوطة بمخاطر السمعة بالتحديد.

إلى جانب فرص القطاع المصرفي، ثمّة تأثير بديهي لأي تدفّق محتمل للعملة الصعبة إلى الداخل السوري، وخصوصًا بوجود أسواق مشتركة ومتداخلة للنقد والقطع بين البلدين. وفي فترة من الفترات، أدّت العقوبات، وشحّ الدولارات في سوريا، إلى زيادة الطلب على الدولارات من قبل التجّار السوريين في لبنان، ما أدّى إلى زيادة الضغوط النقديّة. أمّا اليوم، أي تطوّر معاكس، بعد رفع العقوبات سيؤدّي إلى تأثير إيجابي بالاتجاه المعاكس أيضًا.



الفرص الاقتصاديّة

خارج نطاق القطاع المالي، ثمّة فرص اقتصاديّة أوسع للبنان، سيفتحها رفع العقوبات عن سوريا. فانخراط الشركات اللبنانيّة، وخصوصًا في قطاعي البناء والتجارة، سيكون ممكنًا، بعد إزالة القيود التي حدّت من إمكانيّة دخول السوق السوري. بل وسيكون بالإمكان العودة إلى ربط البلدين ماليًا، ما يسهّل التداولات التجاريّة العابرة للحدود، والتي ظلّت تعتمد حتّى اليوم على النقد الورقي. وفي حال توفّر الخدمات المصرفيّة التقليديّة في لبنان أو سوريا، ستتمكّن هذه الأنشطة من الاستفادة من التسهيلات المصرفيّة، مثل فتح الاعتمادات والاعتمادات المستنديّة المؤجّلة الدفع وغيرها. ومن البديهي القول أنّ المصدّرين اللبنانيين سيكونون في قائمة المستفيدين من هذه التطوّرات، وخصوصًا إذا جرت إزالة العقبات المرتبطة بالرسوم والعبور البرّي.

في الوقت نفسه، ثمّة سجال مستمرّ في لبنان منذ سنوات، حول وضعيّة اللاجئين السوريين الموجودين في لبنان، وكيفيّة تأمين عودتهم إلى سوريا. وإذا كان رفع العقوبات يمثّل الخطوة المطلوبة بديهيًّا لتحريك العجلة الاقتصاديّة في سوريا، فهذا التطوّر سيمثّل المقوّمات التي يحتاجها الاقتصاد السوري لخلق فرص العمل وزيادة الأجور، ومن ثم تشجيع اللاجئين الموجودين في لبنان على العودة إلى بلدهم.

في جميع الحالات، ثمّة جانب من هذه الفرص مرتبط ببعض الإجراءات التي يجب القيام بها في لبنان، ومنها تلك التي تستهدف معالجة الأزمة الماليّة والنقديّة القائمة. فالاستفادة من تدفّق الدولارات إلى السوق السوري، في لبنان، سيحتاج أولاً إلى نظام مالي لبنان قادر على امتصاص العملة الصعبة من السوق، على شكل ودائع أو في سوق القطع النظاميّة. واستفادة المصارف اللبنانيّة من ودائع السوريين، أو من القدرة على العمل في سوريا، سيحتاج أولاً إلى تعافي هذه المصارف وخروجها من الأزمة التي تمر بها حاليًا.

علي نور الدين
المدن