مصدر قضائي: العفو العام لا يناقض العدالة... -بقلم روجيه أبو فاضل

  • شارك هذا الخبر
Wednesday, May 14, 2025

مع بداية إعادة إحياء دور المؤسسات الواحدة تلو الأخرى، بعد أن تمّ تهديمها وانحلالها عمدا خلال العهد السابق، تبرز اليوم مؤشرات على استعادة الدولة لعافيتها، وذلك بإصرار وتوجيهات رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون، الذي وضع في صلب أولوياته إعادة الثقة بالمؤسسات وتفعيل دورها.





وفي هذا السياق، قال مصدر قضائي رفيع المستوى: يطفو ملف العفو العام إلى الواجهة مجددا بوصفه مأساة وطنية معلّقة، فلا خطوة إصلاحية ولا مبادرة إنسانية، بل ورقة تفاوضية تُستخدم في لحظات سياسية حساسة، ثم تُطوى على وقع التنازع الطائفي والفرز المناطقي.


اضاف المصدر : بينما يبقى هذا الملف معلّقًا، يُترك آلاف السجناء وعائلاتهم لمصير قاسٍ في سجون مكتظة، وأروقة محاكم مزدحمة، وظروف إنسانية متدهورة. فالسجون في لبنان أصبحت مرآة لعجز الدولة، بل صورة عن فشل النظام برمّته. سجن رومية، الأكبر بين السجون، تجاوز كل المعايير المقبولة إنسانيا، فالاكتظاظ بلغ مستويات كارثية، والخدمات الطبية والغذائية في أدنى مستوياتها، وحالات الانتحار والإدمان تزايدت، ولا أفق لأي معالجة سريعة. في المقابل، تستمر التوقيفات العشوائية، ويمكث الآلاف في السجن لأشهر وسنوات دون صدور أي حكم قضائي بحقهم".

واكد المصدر القضائي أن نحو 60% من نزلاء السجون هم موقوفون لم تصدر بهم أحكام بعد، في ظل شلل جزئي في المحاكم، ونقص كبير في عدد القضاة، وتأجيل مستمر للجلسات بسبب الأوضاع اللوجستية أو غياب التنسيق بين الأجهزة. هذا الواقع لا يُشكّل فقط إهانة للعدالة، بل أيضا خرقا واضحا للمعايير الدولية التي تضمن حق المحاكمة العادلة ضمن مهلة معقولة.

لكن ما يزيد الوضع خطورة هو طريقة تعاطي الدولة، لا سيما القوى السياسية مع هذا الملف. فالعفو العام تحوّل على مدى سنوات، من مشروع وطني إلى سلعة سياسية، تُطرح فقط عند اقتراب انتخابات أو في سياق مساومات طائفية. المشاريع التي طُرحت كانت انتقائية، تُفصَّل على قياس تيارات سياسية معيّنة، وتستثني فئات أخرى لأسباب لا علاقة لها بالعدالة، بل بالحسابات السياسية والمناطقية.

وسأل المصدر كم من مرة طُرح العفو بشكل موسمي؟ وكم من مرة سُحب من التداول بعد خلاف على من يشمل ومن يُستثنى؟ وهل يُعقل أن يتحكّم بعض الزعماء بمصير آلاف السجناء، وكأنهم أرقام تُستخدم لرفع السقف السياسي أو خفضه؟ هذا التعاطي يُكرّس مفهوم "العدالة المُسيّسة"، ويُسهم في تعميق الشروخ الاجتماعية بدل ترميمها.

وتابع المصدر: تقع المسؤولية الوطنية على الرؤساء الثلاثة في الدولة، كل من موقعه الدستوري والرمزي والسياسي:


- رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون، الذي بدأ عهده بإطلاق ورشة إعادة بناء الدولة واستعادة المؤسسات، مدعو اليوم إلى مقاربة هذا الملف بمسؤولية تاريخية. إن منطق الاستمرارية في الحكم لا يكتمل دون معالجة الانهيارات الأخلاقية والمؤسساتية التي تركها العهد السابق، ومنها مأساة السجون. المبادرة الرئاسية إلى فتح هذا الملف قد تشكّل نقطة تحوّل حقيقية في استعادة هيبة الدولة وثقة المواطن بها، لأن العدالة قبل أن تكون قانونًا، هي قيمة إنسانية تعكس روح الحكم الرشيد.

- رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي طالما وُصف بـ "صانع التوافقات"، يتحمّل مسؤولية تشريعية وسياسية عن تعطيل هذا الملف طوال سنوات. فاقتراحات العفو بقيت حبيسة الأدراج أو ضحية التوازنات، في حين أن المجلس النيابي كان قادرا لو أراد، على تمرير قانون متوازن يجمع بين العدالة والرحمة، بين الحقوق العامة ومتطلبات الأمن. الكرة في ملعبه، والمحاسبة التاريخية لا ترحم من يُطيل الظلم بصمته.

- رئيس الحكومة نواف سلام، الآتي من خلفية حقوقية ودولية، أمام اختبار فعلي لمصداقيته. فحكومة تُنادي بالإصلاح واستقلالية القضاء، لا يمكنها أن تظلّ غائبة عن ملف بهذا الحجم. المطلوب ليس فقط دعما تقنيا أو لوجستيا، بل رؤية سياسية واضحة، تقود إلى قانون عصري للعفو، يشكّل جزءا من سياسة عدالة جنائية شاملة، وتعيد النظر في فلسفة العقاب والسجون برمتها.

من جهة أخرى، لا بد من التذكير بأن العفو لا يُناقض العدالة، يؤكد المصدر القضائي ، بل قد يكون تكريسا لها في ظروف معيّنة. فثمة فئات من السجناء تستحق إعادة نظر حقيقية: شباب انزلقوا نحو الجريمة بسبب الفقر أو البيئة المتفككة، موقوفون على خلفيات سياسية أو طائفية، نساء محكومات بقضايا اجتماعية، وأشخاص ينتظرون محاكمات منذ سنوات بسبب بطء الإجراءات. هؤلاء لا يجب أن يُعاملوا بنفس معيار من ارتكب جرائم كبرى منظّمة.

العدالة الانتقائية هي الخطر الأكبر.

واشار الى ان العفو إذا أُقرّ بمعايير سياسية ضيّقة، سيُنتج ظلماً جديداً بدل معالجة ظلم قائم. ما نحتاج إليه هو قانون شامل وعادل وشفاف، يصدر عن لجنة قضائية مستقلة، لا عن مكاتب الكتل النيابية. قانون يأخذ في الاعتبار نوع الجرم، ظروف ارتكابه، توبة المحكوم، وحقوق الضحايا، ويضع معايير واضحة لا تستثني أحدا تعسفا ولا تكرّم أحدًا مجاملة.

واكد المصدر إن العفو العام، حين يُقارب كجزء من مشروع إصلاحي شامل، يمكن أن يكون مدخلًا لحل أزمة أعمق: أزمة العدالة نفسها. فكيف يمكن بناء دولة حديثة، إذا كانت السجون فيها تنفجر من الداخل، والمحاكم تنهار من بطء العدالة، والمواطن يفقد الثقة بكل مؤسساتها؟ لا دولة من دون عدالة، ولا عدالة من دون شجاعة في اتخاذ القرار.


ويختم المصدر القضائي الرفيع المستوى بالقول "إن أي تأخير إضافي في معالجة ملف العفو العام، هو مشاركة فعلية في تعميق الظلم، وتمديد غير معلن لحالة انهيار الدولة. أما إقراره بمعايير عادلة، فسيشكّل بداية استعادة الثقة، وأول خطوة على طريق دولة القانون".