هل تشفي الكتابة جروح النفس في زمن الحروب والمحن؟

  • شارك هذا الخبر
Thursday, February 20, 2025

تستند البروفسورة والشاعرة نايلة شدياق في كتابها "الكتابة تشفي، صدمات الحرب والأدب"، (منشورات أوديل جاكوب، باريس 2025)، إلى تجارب ليون تولستوي وخورخي سمبرون وبليز سندرار الأدبية، كي تجيب عن هذا السؤال الإشكالي، محاولة فهم الأسباب التي تدفع بالفرد إلى اللجوء إلى الكتابة في زمن الحرب.

يتناول الكتاب الجديد بالتحديد الكتابة الأدبية التي هي بعرف شدياق "فعل حياة" وبداية وجود وتحرّر من التعثر ونتائجها بيّنة على صعيد الشفاء من الصدمات النفسية، فهي ليست مجرد ترفيه، بل تمرين على التفكير، يقود حتماً إلى تحول على الصعيد النفسي. فالأدب مخاض وولادة نفسية، والقصص والسرديات والكلمات تمنح شكلاً للاضطرابات النفسية التي تخلّفها الحروب، من هذه الزاوية تصبح الكتابة سبيلاً لتطهير النفس من الخوف والصدمات التي تحدث عنها أرسطو (كاثارسيس)، أي لتغيّر حاد في العاطفة يؤول إلى تنقية النفس من العواطف الزائدة وتجددها، فتتخفف وترتاح وتستعيد صحتها النفسية، ألم يقل الكاتب والمفكر الفرنسي تزفتان تودوروف إن الأدب أعطى شكلاً لأحاسيسه وساعده على تغيير نفسه من الداخل، فاتحاً أمامه إمكان التفاعل مع الآخرين؟

من خلال استعراض أعمال أدبية قديمة أو معاصرة، حاولت نايلة شدياق دفع القارئ إلى اكتشاف العلاقة بين الكتّاب والكتابة، والأهم من ذلك، تشجيعه على قراءة أو إعادة قراءة أعمال قد تساعده خلال الأوقات العصيبة، بسبب من تداخل العلاقة بين علم النفس والأدب، ليس حول تفسير السلوك الإنساني وسبر أغوار الحقيقة الإنسانية وحسب، بخاصة أن أعمالاً أدبية شهيرة شكلت عتبة مهمة أمام الطبيب النفسي لمعرفة حقيقة الأمراض والوقوف على مظاهرها وأبعادها، بل لأن الأدب يمّكن المضطرب نفسياً ألا يظل أسير الخوف والهذيان وأن يتحرر من واقعه، مفصحاً عن مكنونات نفسه.

تكتب نايلة شدياق قائلة إن التركيز على الكتابة كوسيلة للشفاء في زمن الحرب أو أثناء الحداد، أي في الفترات المظلمة من حياة الإنسان، تجعل منها مساحة للحياة، لا يكون الفرد فيها مجرد متلقٍّ سلبي للأحداث المؤلمة، بل فاعلاً إيجاباً.

الحرب والكتابة

يتناول القسم الأول من الكتاب العلاقة بين الحرب والكتابة، وهو ثمرة تفكير طويل في الصدمة النفسية وارتباطها بالموت بناءً على قراءات عدة وعلى تجارب عيادية وشخصية تعود إلى خبرة حصّلتها المعالجة النفسية من خلال معاطاتها مع الناجين من الاعتداءات الإرهابية ومن عمليات الاختطاف منذ عام 1995، حين طلب منها الطبيب النفسي العسكري لويس كروك، وكانت آنذاك إحدى طالباته، الانضمام إلى فريق عمله لمساعدة مصابي التفجير الإرهابي الذي طاول محطة مترو سان ميشال في باريس، مخلفاً ثمانية قتلى و117 جريحاً، ومن خلال عملها الإكلينيكي في قسم الأمراض النفسية والدماغية في مستشفى سانت آن في باريس.

حاولت الشدياق في هذا القسم من الكتاب الإجابة عن سؤالين: لماذا نكتب أثناء الحرب؟ ولماذا لا نكتب الشيء نفسه في زمن السلم؟ كما لو أن الكتابة في زمن الحرب تتخذ أشكالاً مختلفة. تقول شدياق إن الإنسان في زمن الحرب يتجه أكثر إلى كتابة المذكرات وبعض النصوص الأقرب إلى السيرة الذاتية أو اليوميات المواكبة لأحداث الحرب التي يعايشها، كما يتجه إلى كتابة القصائد والرسائل والروايات والمسرحيات التي تعبر بصورة خاصة عن الغضب والضيق والألم والعذاب والسوداوية، وأحياناً عن الآمال المهدورة على مذبح العنف والنزاعات والاضطرابات ورائحة الموت وصور الدم والجرحى والقتلى.

من يقرأ هذه الكتابات يدرك حتماً أن بعض الأحداث التاريخية على قباحتها قد تلهم أعمالاً أدبية عظيمة، وهنا تطرح شدياق السؤال: متى نكتب؟ أأثناء وقوع الحدث أم بعده بوقت طويل؟ الإجابة عن هذين السؤالين ترتبط بحسبها بنوع الكتابة الأدبية. تقول المؤلفة إن كنا نتحدث عن المذكرات، فالكتابة التوثيقية تكون يومياً، على سبيل المثال، تخبرنا شدياق أن الشاعر والقاص والكاتب المسرحي والروائي والناقد الفني غيوم أبولينير الذي تطوع في الجيش الفرنسي بعد يومين من إعلان الحرب العالمية الأولى وكان من جرحاها، كتب مشاهداته وذكرياته في الخنادق تحت وابل نيران العدو على علب السجائر. وكتب بريمو ليفي تجربته في معسكر الاعتقال مباشرة بعد وقوعها، أما خورخي سمبرون فلم يتمكن من وضع كتابه "الكتابة أو الحياة" الذي روى فيه معاناته في معسكرات الاعتقال، إلا بعد مضي 15 عاماً على تجربته الأليمة، معترفاً أن الأمر لم يكن متعلقاً بالجرأة على الحديث عن تجربته، بل بمعرفة كيف يمكنه التعبير عنها.

مشاعر التأزم

تشدد نايلة شدياق كذلك على أن تخصيص وقت للتعبير عن المشاعر في حقبات التأزم يساعد على تجاوزها. فبليز سندرار الذي تطوع في الحرب العالمية الأولى في الجيش الفرنسي أُصيب بجروح خطرة أدت إلى بتر ذراعه اليمنى وتسريحه من الخدمة، وقد كتب عن هذه التجربة روايةً بعنوان "اليد المبتورة"، مكنته من تقبّل وضعه وتخطي أوجاعه والتعافي قدر المستطاع من الاكتئاب والعذابات النفسية.

ولعل الكاتبة بسبب من معايشتها الحرب اللبنانية، أدركت أن الحرب تلامسها شخصياً ومهنياً، وهي الموضوع الثابت في كل كتاباتها الشعرية، فمن خلال تأملها في المجتمع وفي تطور الأعراض العصابية والذهانية التي عاينتها في عيادتها، تفكرت شدياق في كيفية مواجهة هذه التغيرات، لا سيما في زمن الحروب أكانت حرب فيتنام أم كوريا أم الحربين العالميتين وما تلاهما من حروب مختلفة في شتى أنحاء العالم، فلم تجد سوى الأدب جداراً في وجه الانهيار، ذلك أن الكتابة الأدبية بعرفها وسيلة للكشف عما يختلج في أعماق النفس، لذا تقول إنها غالباً ما تقترح على مرضاها اللجوء إلى الكتابة يومياً ولو لبضع دقائق، لأن الكتابة ممكنة في أي مكان، حتى في الملاجئ أو في داخل دبابة، في حين أن أشكال التعبير الفني الأخرى قد لا تكون متاحة دوماً، بينما الورقة والقلم هما رفيقان دائمان.

في "الكتابة تشفي، صدمات الحرب والأدب" تدافع نايلة شدياق أيضاً عن القراءة التي تفتح الآفاق، وتقابل بينها وبين الكتابة التي تستوجب العزلة، مؤكدة ضرورة الجمع بينهما، مقدمةً أنماطاً مختلفة من الكتابة التي يختار منها كل شخص ما يناسبه، تتحدث شدياق على سبيل المثال لا الحصر عن تجربة الصحافية والكاتبة البيلاروسية الحائزة على جائزة نوبل للآداب عام 2015، سفيتلانا أليكسييفيتش التي رصدت أهوال الحروب المختلفة التي عاصرتها، فجمعت شهادات مئات الجنود والرجال والنساء الذين وقفوا على جبهات الحرب العالمية الثانية بوجه ألمانيا النازية، وأولئك الذين شاركوا في الحروب المختلفة التي خاضها الاتحاد السوفياتي في أفغانستان ومحاولات الانتحار التي تسبب فيها انهياره، ناقلة ذكريات شخصية لأناس عاصروا هذه المعارك البغيضة وعايشوا قباحاتها. كذلك تتحدث عن تجربة الكاتب المسرحي والمخرج والمترجم الكندي - اللبناني وجدي معوض.

توسيع الآفاق

باختصار يدافع كتاب نايلة شدياق عن فكرة أن الكتابة توسّع الأفاق وتجعل التفكير أكثر مرونة، وأن الإنسان كلما كتب بأساليب أدبية مختلفة، زادت قدرته على التفكير من زوايا عدة، بدلاً من دورانه في حلقة مفرغة من العجز والإحباط، وأن الخيال الأدبي بإمكانه أن يكون أحد السبل في الوصول إلى حلول لمشكلاتنا النفسية، لم نكن لنصل إليها بمفردنا، فالأوقات السوداء ليست أبدية، وللشفاء من صدمات الحرب يحتاج كل واحد منا إلى العودة إلى ذاته، علماً أن الكتابة ليست كافية للشعور بالتحسن، لعلها الخطوة الأولى على طريق العلاج، تشبه إزالة الضمادة عن جرح عميق يستوجب في ما بعد العلاج.

يتناول كتاب نايلة شدياق بعد وصفه سمات الصدمات السيكولوجية مسألة إعادة بناء الذات، مشدداً على أطروحة تستند إلى أفكار المحلل النفسي المجريّ شاندور فيرينتزي، مفادها أن الشخص الذي يريد الشفاء والتعافي، عليه أن يبدأ أولاً بسرد صدمته، لينتقل لاحقاً إلى الكتابة عن أمور أخرى.

يؤكد الكتاب كذلك ضرورة تخصيص وقت للكتابة من أجل الاهتمام بالذات، مذكراً قرّاءه أنه مع اندلاع الحروب في كل مكان، لا يزال بإمكان الإنسان الصمود، فالفكر ثابت، ولكي نحافظ عليه، علينا أن نقرأ ونكتب، والكتابة وسيلة دعم فعاّلة ليس فقط أثناء الحروب، بل في حياتنا اليومية، الكتابة تساعدنا على فهم بعض الأحداث الشخصية والنفسية وعلى ترتيب ما في عقلنا وقلبنا من خلال تسمية ووصف مشاعرنا وإعادة تنظيم أفكارنا ومواقفنا من خلال صياغتها في جمل وحكايات.


اندبندنت عربية