كيف تتدفق أموال "ساخنة" عبر الصين إلى أميركا؟

  • شارك هذا الخبر
Thursday, February 20, 2025

في صباح أحد أيام أكتوبر (تشرين الأول) 2024، قاد أحد المشتبه فيهم بتهريب المخدرات شاحنة "بيك أب" بيضاء إلى موقف سيارات داخل "غلوبال فريش ماركت" في سان غابرييل بكاليفورنيا، وتوقف إلى جانب سيارة "مازيراتي" زرقاء، وبعد محادثة قصيرة مع امرأة في الـ"مازيراتي" وضع الرجل حقيبة سوداء كبيرة في المقعد الخلفي للسيارة الرياضية، ووفقاً لأعضاء فرقة العمل الأميركية الذين كانوا يراقبون المشهد، قالت السلطات إن الحقيبة تحوي نحو 300 ألف دولار نقداً.

كانت هذه العملية جزءاً مما تصفه السلطات الأميركية بأنه "جبهة جديدة" في الحرب على المخدرات في البلاد، إذ جعلت شراكة ناشئة الصين محطة حاسمة لـ"الأموال القذرة" المقبلة من أزمة الـ"فنتانيل" المخدر في الولايات المتحدة، وفقاً لصحيفة "وول ستريت جورنال" اعتماداً على وثائق محكمة ومسؤولين في إنفاذ القانون.

وأصبح وسطاء المال الصينيون الذين يعملون ضمن نظام مصرفي تحت الأرض شركاء أساسيين لمهربي الـ"فنتانيل" ومجموعات إجرامية أخرى تحتاج إلى غسل عائدات المخدرات غير المشروعة، بحسب ما يقول المسؤولون.

وعمل هؤلاء الوسطاء في الظل لأعوام وهم يستخدمون وسطاء مثل المرأة في الـ"مازيراتي" لجمع عائدات المخدرات من تجار الـ"فنتانيل"، ثم من خلال سلسلة من المعاملات يبيعون تلك الدولارات للعملاء الصينيين الذين يريدون تحويل الأموال إلى الولايات المتحدة لأغراض مثل شراء العقارات أو الاستثمارات الأخرى، لكن لا يمكنهم إرسال الأموال مباشرة من الصين بسبب القيود المالية هناك.

وفي هذه العملية يحصل تجار المخدرات على أموال نظيفة، بحسب ما صرح به المسؤولون في إنفاذ القانون.

وفي القضية المتعلقة بالـ"مازيراتي" التي أطلق عليها اسم "عملية فورتشن رانر"، قضى أعضاء فرقة العمل التابعة لإدارة مكافحة المخدرات أعواماً بالتحقيق في شبكة كهذه، بما في ذلك آلاف الساعات من المراقبة على مستوى الشوارع. وأظهرت توقيفات المرور للمشتبه فيهم العثور على أموال مخبأة في صندوق حبوب فاكهة "فروتي بيبلز" وكيس هدايا مكتوب عليه "عيد ميلاد سعيد".

وأدت التحقيقات في النهاية إلى توجيه الاتهام لـ24 شخصاً العام الماضي، إذ كشف عن أكثر من 50 مليون دولار من عائدات المخدرات التي يقول المدعون إن وسطاء صينيين كانوا يغسلونها لمصلحة شركاء مكسيكيين.

وسطاء المال الصينيين

وتعد الأدلة على تعميق العلاقة بين تحالفات المخدرات ووسطاء المال الصينيين تحدياً للرئيس الأميركي ترمب الذي تعهد بإنهاء أزمة الـ"فنتانيل"، التي تتسبب في وفاة عشرات الآلاف من الأميركيين كل عام.

وحتى الآن، كان تركيزه على قطع تدفق الـ"فنتانيل" والمكونات الأولية التي تستخدم في تصنيعه إلى الولايات المتحدة، إذ فرضت إدارة ترمب تعريفات جمركية على الدول المنتجة، بما في ذلك تعريفات جديدة بنسبة 10 في المئة على الواردات الصينية إلى الولايات المتحدة خلال وقت سابق من الشهر الجاري.

لكن إغلاق شبكة وسطاء الأموال الواسعة التي يعتقد المسؤولون الأميركيون أنها أساس لتسهيل حركة التجارة، قد يكون أمراً صعباً أيضاً.

وفي شهادة قدمها مسؤول سابق في إدارة مكافحة المخدرات (DEA) أمام اللجنة الخاصة بمجلس النواب حول الحزب الشيوعي الصيني العام الماضي، قدرت مبيعات المخدرات العالمية بنحو 500 إلى 750 مليار دولار سنوياً، وقال المسؤول إنه يعتقد أن الشبكات الصينية تغسل جزءاً كبيراً من هذه الأموال.

أزمة الـ"فنتانيل" تبدأ وتنتهي في الصين

وقال القائم بأعمال رئيس العمليات في إدارة مكافحة المخدرات جارود فورجيه في مقابلة، "تبدأ أزمة الـ"فنتانيل" داخل الصين وتنتهي في الصين".

وفي رد مكتوب على أسئلة الصحيفة لم تجب وزارة الخارجية الصينية بصورة مباشرة على دور المواطنين الصينيين في غسل أموال المخدرات، وقالت الوزارة إن جذور أزمة الـ"فنتانيل" تكمن في الولايات المتحدة نفسها، وإن تعريفات ترمب الجمركية تجاهلت نتائج التعاون بين الولايات المتحدة والصين، بما في ذلك مكافحة إنتاج الـ"فنتانيل" في الصين.

وقالت الوزارة "إلقاء اللوم على الآخرين لن يحل هذه المشكلة، كما أن الضغط والتهديدات ليست الطريقة الصحيحة للتعامل مع الصين".

وفي حين انخفضت حالات الوفاة نتيجة الجرعات الزائدة فإن الـ"فنتانيل" لا يزال أكثر المخدرات فتكاً في الولايات المتحدة، وخلال العام الماضي قدرت كميات الـ"فنتانيل" التي صادرتها إدارة مكافحة المخدرات بأكثر من 55 مليون حبة ونحو 8000 رطل من المسحوق، وهي كافية لقتل كل أميركي.

كيف يعمل النظام؟

كثيراً ما واجه تحالف المخدرات مشكلة تحويل أرباحه من المبيعات غير القانونية في الولايات المتحدة إلى أموال نظيفة وإرسالها إلى الصين، لذا استعان بعضهم بالوسطاء الذين يتقاضون عمولات عالية لمساعدتهم في غسل الأموال من خلال سلسلة من المعاملات التي تشمل البيزو الكولومبي، في ما يعرف بـ"تبادل البيزو" في السوق السوداء، وفقاً للمسؤولين الأميركيين.

ومن ثم دخل وسطاء الأموال الصينيون في الصورة بخدمة أسرع وأرخص بكثير، وكان لديهم ميزة تنافسية لأن عدداً من الناس في الصين يريدون الحصول على الدولار الأميركي، وفقاً للمسؤولين الأميركيين.

وبموجب الضوابط الصارمة التي تفرضها الصين على رأس المال، والتي تهدف إلى الحد من تدفق الأموال بصورة مفرطة خارج البلاد، يسمح للمواطنين الصينيين بشراء 50 ألف دولار فقط من العملة الأجنبية سنوياً. ومع تباطؤ الاقتصاد الصيني وركود أسواق العقارات والأسهم، يسعى مزيد من الصينيين لنقل أموالهم إلى الخارج لحماية ثرواتهم، وأصبح الوصول إلى البنوك السرية المتصلة بتجارة الـ"فنتانيل" وسيلة لتحقيق ذلك، وفقاً للمسؤولين الأميركيين.

ويعمل النظام بأن يوفر العاملون في شبكات المخدرات المكسيكية داخل الولايات المتحدة الأموال الأميركية التي حصلوا عليها من بيع الـ"فنتانيل" إلى وسيط يعمل لمصلحة حلقة غسل الأموال الصينية، وكل ذلك داخل الولايات المتحدة. وعبر تطبيق الرسائل الصيني "وي تشات"، يُعلن الوسطاء عن الأموال للأشخاص في الصين الذين يحتاجون إليها داخل الأراضي الأميركية، وفقاً للمسؤولين السابقين والحاليين في إنفاذ القانون.

وبمجرد العثور على مشتر صيني للعملة الأميركية يحول هذا الشخص ما يعادل المبلغ باليوان الصيني إضافة إلى عمولة كبيرة، إلى حساب مصرفي في الصين يعود للغاسلين، وبعد ذلك يتلقى الزبون الصيني إمكانية الوصول إلى الأموال المشتراة في الولايات المتحدة.

تحت ضوابط رأس المال في الصين التي تهدف إلى منع تدفق الأموال بصورة مفرطة إلى الخارج، يسمح للمواطنين الصينيين بشراء ما يصل إلى 50 ألف دولار من العملات الأجنبية سنوياً، ومع تباطؤ الاقتصاد الصيني وتدهور أسواق العقارات والأسهم، يسعى مزيد من الصينيين لتحويل أموالهم إلى الخارج لحماية ثرواتهم، ويعد الوصول إلى البنوك السرية المرتبطة بتجارة الـ"فنتانيل" وسيلة لتحقيق ذلك، وفقاً للمسؤولين الأميركيين.

أيضاً يمكن استخدام اليوان لشراء سلع صنعت في الصين، تشحن بعد ذلك إلى المكسيك وتباع بالبيزو المكسيكي ووفقاً للمسؤولين الأميركيين. وقد لا يكون بعض المواطنين الصينيين الذين يستخدمون هذه الخدمة على علم بأنها تتعلق بالمخدرات.

وقال المسؤول السابق في مكافحة غسل الأموال بوزارة العدل الأميركية كريغ تيم والذي يعمل الآن في جمعية المتخصصين المعتمدين في مكافحة غسل الأموال للصحيفة، "هذه الآن واحدة من أبرز طرق غسل الأموال في العالم، إن لم تكن الأبرز".

بيع الدولارات الأميركية

وتميز وسطاء المال الصينيون عن منافسيهم من خلال تحمل بعض الأخطار المرتبطة بهذه العملية متعددة الخطوات، فبدلاً من الانتظار حتى اكتمال العملية لإصدار البيزو للشبكات المكسيكية يعملون بصورة أساس على الائتمان، إذ ينقلون الأموال إلى مهربي المخدرات فور تلقيهم التسليم النقدي في الولايات المتحدة، وفقاً للمسؤولين.

وتعد العمولة التي يتقاضاها وسطاء المال الصينيون من مهربي المخدرات صغيرة، لأنهم يحققون أيضاً أرباحاً من بيع الدولارات الأميركية لعملاء شبكتهم المصرفية غير المشروعة.

وقال العميل السابق في إدارة مكافحة المخدرات (DEA) كريس أوروبين الذي شهد ظهور غاسلي الأموال الصينيين في منطقة نيويورك، "عندما كان الكولومبيون يسيطرون على الأمر كانت الكلفة تراوح ما بين سبعة و10 في المئة، أما الصينيون فكانوا يتقاضون واحداً في المئة إلى اثنين في المئة، وكان هذا أمراً غير مسبوق".

وأضاف أوروبين الذي يعمل الآن مديراً في شركة التحقيقات الخاصة "نارديللو أند كو"، "فجأة بدأنا نرى غاسلي الأموال الصينيين يلتقطون أموال المخدرات في جميع أنحاء الولايات المتحدة".

حملة القمع في الولايات المتحدة

ويقول عدد من المسؤولين السابقين في إنفاذ القانون إن هناك حاجة إلى مزيد من التعاون مع الصين، وقال المسؤول السابق في وزارة الخزانة الأميركية أنتوني روجيرو الذي يعمل الآن في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، "كثير من الأموال في هذا النظام تتدفق عبر البنوك في الصين، إذ يكون لدى الصينيين إشراف عليها".

وبدأت وكالة مكافحة المخدرات الأميركية (DEA) والوكالات الأخرى سلسلة من التحقيقات داخل الولايات المتحدة، وفي إحدى القضايا وجهت التهم إلى اثنين من المواطنين الصينيين بتهمة غسل الأموال لمصلحة الشبكات المكسيكية بعدما تخفت الوكالات كوسطاء ماليين.

وكانت مجموعة العمل التي كانت تراقب عملية إسقاط الأموال في سان غابرييل بكاليفورنيا خلال عام 2022 جزءاً من فريق خاص تابع لوكالة مكافحة المخدرات الأميركية، كان يعمل على التحقيقات المتعلقة بالاتجار بالمخدرات عبر التنصت على المكالمات.

كان هدفهم شبكة غسل أموال صينية يديرها رجل يدعى ساي تشانغ كان يتعامل مع تجار مخدرات مزعومين، إضافة إلى العاملين في نقل الأموال مثل المرأة في سيارة الـ"مازيراتي" الزرقاء التي لم تذكر هويتها في سجلات المحكمة.

وقضى الضباط أعواماً في متابعة المشتبه فيهم، إذ كانوا يراقبونهم وهم يلتقطون ويودعون الحقائب في مختلف أنحاء منطقة لوس أنجليس.

وفي صباح أحد أيام أكتوبر 2024 داخل سان غابرييل، قال الضباط إنهم اعتمدوا على محادثة هاتفية جرى التنصت عليها بين عضوين ينظمان عملية تسلم مبلغ 300 ألف دولار.

وبعد تسليم الحقيبة إلى المازيراتي الزرقاء تبع العملاء السيارة إلى أحد المنازل، إذ مزجت الأموال مع عائدات مخدرات أخرى وتوزيعها على عملاء البنوك غير القانونية، وفقاً لما ذكره أشخاص مطلعون على القضية، وفي ما بعد أوقفت الشرطة سائقاً غادر من المنزل ووجدوا بحوزته 25 ألف دولار، وفقاً للوثائق القضائية.

وقالت السلطات الصينية خلال يونيو (حزيران) 2024، إنها اعتقلت في البر الرئيس أحد الرجال الذين اتهموا بالعمل مع الشبكة.


اندبندنت عربية