“كن صديقي… كن صديقي… ليس في الأمر انتقاصٌ للرجولة… غير أنّ الرجلَ الشرقيّ لا يرضى بدورٍ، غير أدوار البطولة… فلماذا تخلط الأشياء خلطاً ساذجاً؟ ولماذا تدّعي العشق وما أنت العشيق”. (سعاد سالم الصباح)
أصابت سعاد الصباح بقولها إنّ الشرقيّ لا يرضى بدور غير البطولة. هذا الدور المنشود ربّما كان الدافع للتضحية والإقدام وتحدّي الخطر والموت في سبيل الخلود أو رفع رايات النصر، مهما كلّف الأمر. لكنّ دور البطولة هذا يعرفه الأعداء ودرسوه بكلّ تفاصيله، وكما استعمل “البيجر” كوسيلة للتواصل، ثمّ تحوّل إلى أداة للاصطياد، كان دور البطولة وسيلة لاصطياد الساعين إلى رفع رايات النصر على الركام وأشلاء الضحايا.
يقول نعوم تشومسكي، وهو الذي شهد على ولادة دولة إسرائيل، وكان يعرف قادتها بشكل شخصي، إنّ مناحيم بيغن كان غاضباً يوم إعلان تقسيم فلسطين سنة 1947 وفق القرار 181. وعلى الرغم من أنّ هذا القرار كان مؤشّراً إلى ولادة دولة إسرائيل، لكنّ بيغن اعتبر أنّ حقّ اليهود هو في كلّ أرض فلسطين، على أقلّ تعديل.
وحده بن غوريون كان هادئاً، وشرح أنّ الظلم الذي لحق بالعرب سيدفعهم إلى الردّ. ولذا ما كسبه الصهاينة من أرض فلسطين في قرار التقسيم البالغ 51 في المئة منها مرشّح ليكبر في حرب مؤكّدة سيبادر إليها العرب لاسترجاع الأرض والعرض، مستندين إلى حميّة شباب العرب ورغبتهم في الاستئثار بدور البطولة، وإلى عبقريّة القائد الخبير فوزي القاوقجي، ابن طرابلس الذي قاد جيش الإنقاذ.
قد يظنّ البعض منّا أنّ حرب 1973 غيّرت الوقائع، ولا بأس بذلك. فقد رفعت تلك الحرب المعنويّات العربية
قضم 78% من أرض فلسطين
لكن على الرغم من حميّة وبطولة المجاهدين المتطوّعين، كان عددهم وتجهيزاتهم أقلّ بكثير من أعدائهم. ومع تحقيق نجاحات عربية في البداية، سقطت كلّ الجيوش العربية الصغيرة وقضم الصهاينة 78 في المئة من أرض فلسطين. وعلى الرغم من ذلك، بقي بن غوريون يعوّل على حميّة العرب للعودة للقتال لاسترجاع الكرامة، فليبقى الحاكم العربي حاكماً على رؤوس العباد يبغي ويقتل ويسجن عرباً على قاعدة بأنّ المعركة مقبلة لتحرير الأرض.
هكذا كان، ففي كلّ مرّة يشنّ العرب حرباً باسم فلسطين كانوا يخسرون المزيد من الأرض والعديد من الأرواح والكثير من الأمل بالمستقبل، وأموالاً لا حصر لها لشراء سلاح ليس إلّا خردة، لتذهب الأموال إلى جيوب صنّاع إسرائيل بالذات، أكانوا من الشرق أم الغرب.
وحده الحبيب بورقيبة خرج كالصوت الصارخ في البرّيّة ليعلن أنّ الحروب هي مطلب الصهاينة، لأنّهم في كلّ مرّة يكسبون المزيد من الأرض، ثمّ يفاوضون على أساس أنّ ما كسبوه هو حقّ لهم، متحجّجين بأنّ البادئ أظلم، وأنّ العرب عدائيون بطبعهم، ولا يمكن التعامل معهم إلّا بلغة القوّة المفرطة. من هم من جيلي يذكرون كيف شُتم واتُّهم بورقيبة بالعمالة، إلى أن حدثت فاجعة حرب 1967، فأيقن البعض حقيقة الأمر.
الحرب
قد يظنّ البعض منّا أنّ حرب 1973 غيّرت الوقائع، ولا بأس بذلك. فقد رفعت تلك الحرب المعنويّات العربية، وإن بشكل مثير للتساؤل، فتغاضى الناس عن ثغرة الدفرسوار ومحاصرة الجيش المصري من قبل أرييل شارون، ونسي الجميع أنّ غولدا مائير في حمأة غضبها كانت ذاهبة لحصار دمشق، وأنّ أرتال الدبّابات السورية دُمّرت بكاملها بحكم التفوّق النوعي لدبّابات العدوّ، وليس لأنّ جنوده أكثر شجاعة.
تجربة الحرب الأخيرة، وعلى الرغم من دروس الماضي، أكّدت المؤكّد، وهو أنّ هزيمة دولة الصهاينة العنصرية لن تكون على المدى المنظور بالسلاح
أظنّ أنّ مصر وسورية تعلّمتا الدرس يومها، وفهم قادتهما أنّ العدوّ ليس إسرائيل، بل هو الولايات المتحدة التي جعلت من دولة الصهاينة امتداداً لها. تجربة أخرى وأخيرة حصلت في حرب 1982 على لبنان: غامرت الطائرات السورية بالدخول في المعركة، فسقطت كلّ طيّارات الأسد يومها، بحكم التفوّق النوعي، وليس بحكم الشجاعة ولا الإقدام ولا الحميّة العربية. بهذه الأمور تفوّق العدوّ بأضعاف.
تجربة تأكيد المؤكّد
تجربة الحرب الأخيرة، وعلى الرغم من دروس الماضي، أكّدت المؤكّد، وهو أنّ هزيمة دولة الصهاينة العنصرية لن تكون على المدى المنظور بالسلاح، بل على عكس ما يروّج له أصحاب الرؤوس الحامية، أكانوا صادقين أم منافقين. منذ اليوم الأوّل لـ”طوفان الأقصى”، كنت بين القلّة المتشائمين بل المستهجنين لتلك المغامرة الجديدة، ليس من أجل الضحايا اليهود، ففي الحرب لا حسابات للأرواح، بريئة كانت أم مذنبة، وإنّما لأنّ الحسابات لن تأتي في اليوم الأوّل، بل في اليوم التالي وما بعده.
كلّ التحليلات التي قرأتها، والخيارات التي أعلنها نتنياهو على مدى عقدين من الزمن، أكّدت أنّ الهدف النهائي هو ترانسفير جديد للفلسطينيين إلى خارج أرضهم، أو ما بقي لهم من حقّهم، بحكم الخسارة في أرض المعركة وليس بسبب صراع نظري بين الحقّ والباطل نتائجه غير مهمّة. وكما راهن بن غوريون من قبله على حميّة العرب، كان نتنياهو وصحبته الشيطانية يترقّبون ويأملون، وربّما كانوا يهيّئون الظروف لما يشبه “طوفان الأقصى” ليكون حجّة لتنفيذ خططهم.
من كان يتشكّك في ما كنت أقوله في أولى مقالاتي بعد “الطوفان” عن التهجير، يمكن أن يراها اليوم في تصريحات دكتاتور أميركا الجديد عن “نقل الفلسطينيين لأسباب إنسانية” إلى خارج أرضهم من أجل إصلاحها، ثمّ يعودون إليها كما عاد من قبلهم من لجأوا إلى لبنان وسورية والأردن بعد جولات سابقة.
كلّ التحليلات التي قرأتها، والخيارات التي أعلنها نتنياهو على مدى عقدين من الزمن، أكّدت أنّ الهدف النهائي هو ترانسفير جديد للفلسطينيين
ما الحلّ إذاً؟
من دون لفّ ودوران، الحلّ لضرب كلّ تلك المخطّطات الشيطانية المموّهة بالأهداف النبيلة، هو أن تعلن مختلف تنظيمات فلسطين وسلطاتها الركيكة وشعبها الذي ضحّى بالصمود وفقدان الأحبّة، أنّهم يعترفون بالهزيمة في المعارك فيسلّمون سلاحهم غير المجدي، الذي لا دور له إلّا أن يكون حجّة للعدوّ، وأنّهم باقون في أرضهم ولن يتركوها لأنّها الوسيلة الوحيدة للمقاومة. وإن كان هناك ترانسفير للبعض، فلنرَ كيف سيكون الموقف لو أصرّ الفلسطينيون على أن يكون التهجير إلى دول غربية جاء منها الصهاينة أصلاً.
لا شكّ أنّ هذا الكلام سيواجهه البعض بالشتائم والتخوين وشتّى الاتّهامات، لكنّه يبقى لذوي الألباب حكمة التفكير وجرأة البوح بفكرهم.